عرض مشاركة واحدة
بياناتي
 رقم المشاركة : ( 5 )
aymonded
ارثوذكسي ذهبي
رقم العضوية : 527
تاريخ التسجيل : Jun 2007
مكان الإقامة :
عدد المشاركات : 21,222
عدد النقاط : 58

aymonded غير متواجد حالياً

افتراضي رد: سر التقديس في المسيح - موضوع روحي لاهوتي يختص بحياتنا حسب التدبير وتجسد الكلمة

كُتب : [ 05-29-2020 - 05:00 AM ]


3 - تقديس البشرية في المسيح

=================
إن المسيح ابن الله بالطبيعة، في ملئ الزمان كالتدبير اتحد بطبعنا الإنساني الضعيف القابل للموت فصار واحداً منا، أتحد بنا اتحاداً حقيقياً لا رمزية فيه أو مجرد ظهور في جسد، لذلك قال الرسول لكي يقطع الشك باليقين: "والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا (فينا) ورأينا مجده"، وبسبب تجسد الكلمة نستطيع أن نقول بكل تأكيد وإصرار أن كل قوانا البشرية صارت مُكللة بالمجد الإلهي الفائق، وصار هذا الجسد محل ومقرّ سكنى الله عن جدارة، لأن الكلمة أخذ جبلتنا أو عجينتنا البشرية وعجنها بطبعه، أو بمعنى بسيط: أتخذ جسداً ووحده مع لاهوته بطريقة ما، وهي عجيبة تفوق وتعلو فوق كل فكر وفوق كل لفظ وإدراك، بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، أي انه اتحد بنا اتحاداً حقيقياً غير موصوف، اتحاد ليس فيه تبديل في الطبائع او تغيير فيها، لأن الإنسان ظل إنسان والله ظل الله لم يتم تبادل طبائع ولا يوجد خلط بينهما ولا واحدة حلت مكان الأًخرى بالتبادل أو بالامتزاج أو الذوبان.

فالله اللوغوس أتى إلينا على الأرض لا كمجرد حضور مُعجزي أو زيارة عابرة، إنما لكي يُقيم يحيا وسطنا بذات الجسد عينه لكن بلا خطية، فقد شاهدنا مجده (يوحنا 1: 14) في جسد طفل:
+ أنهُ وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلص هو المسيح الرب = (الكلمة صار جسداً) وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضطجعاً في مذود (حل بيننا). فسمعناه، ورأيناه بعيوننا، وشاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. (لوقا 2: 11و 12؛ 1يوحنا 1: 1)

فبكل يقين وبلا أدنى شك، أصبح الجسد عينه مكان أو مقرّ سكنى الله وحلوله الخاص، أي صار بيته هوَّ، أو صار وقفاً عليه، أي مكانه الخاص:
+ لكن العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي؛ الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي؛ وأما المسيح فكابن على بيته، وبيته نحن، أن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية. (أعمال 7: 48؛ 17: 24؛ عبرانيين 3: 6)
+ فأنكم أنتم هيكل الله الحي، كما قال الله: إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً = والكلمة صار جسداً وحل بيننا (فينا) ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً. (2كورنثوس 6: 16؛ يوحنا 1: 14)
+ اما تعلمون انكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم، أن كان أحد يفسد هيكل الله فسيفسده الله، لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هوَّ. (1كورنثوس 3: 16، 17)
فالجسد البشري صار أداة إلهية من خلالها قدِّس الله الإنسان بواسطة اللوغوس المتجسد، ولما صعد الابن الوحيد إلى السماء بهذا الجسد عينه الذي تجسد ومات به وقام، نقلنا معه ونقل الخليقة كلها إلى الآب ينبوع كياننا ومصدره، وهذا هو معنى التألُّيه، أي: أن يجمع كل شيء في المسيح. (أفسس 1: 10)، وهذا يُسمى عند الآباء: الانجماع الكلي في المسيح (ανακεφαλαιωσις)

ويقول القديس إيرينيئوس:
[في ملء الزمان صار "الكلمة" إنساناً منظوراً وملموساً لكي يجمع كل شيء في نفسه ويحتوي كل شيء ويبيد الموت ويُظهر الحياة ويُعيد الوحدة بين الله والإنسان][i]؛ [فإن المسيح كما قلنا قد وحَّد الإنسان مع الله. فقد كان لائقاً أن الوسيط بين الله والناس بحق قرابته الخاصة مع كل منهما، يُعيد الأُلفة والتوافق بينهما، ويُقدم الإنسان إلى الله، ويُظهر الله للإنسان.. فإنه من أجل ذلك قد جاء مجتازاً في جميع الأعمار لكي يعيد للجميع الشركة مع الله][ii]

وعليك أن تُدرك عزيزي القارئ تمام الإدراك، أن في التجسد اتّسمت بشريتنا بسمات الله بسبب هذا الاتحاد العجيب، وارتدت إنسانيتنا بهاء مجد الله الحي (لأننا اعتمدنا في المسيح فلبسنا المسيح)، وصارت المادة نفسها جواً إلهياً خاصاً يحيا فيه الله الذي تجسد وعاش بيننا وصار واحداً منا.

لذلك فأن تأليه البشرية (أي سكنى الله فيها)، أي تقديسها في المسيح ورفعتها معهُ للآب السماوي بروح الحياة أي الروح القدس، يقوم بالأساس على عطاء الله ذاته لنا بإرادته حسب التدبير، ليسكن هو بنفسه وشخصه فينا، بمسرة ورضا كامل، فلقد اختار الله أن يصير محور إنسانيتنا بكل ما فيها، لذلك وهب لنا ذاته في المسيح واتحد بنا اتحاد حقيقي غير قابل للانفصال، وصار معنا في وحده أشدّ ما تكون أُلفة وقُرباً بسبب تجسد اللوغوس؛ أنه يسكن فينا لأنه جعلنا هيكله الخاص، إنه فعلياً يُقيم فينا جاعلاً منا جوه الخاص.
+ أنا فيهم (بالتجسد)وأنت فيَّ (طبيعياً حسب وحدة الجوهر)، ليكونوا مُكملين إلى واحد، وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني؛ وعرفتهم اسمك وسأُعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم؛ أجاب يسوع وقال لهُ: أن أحبني أحد يحفظ كلامي، ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. (يوحنا 17: 23، 26؛ 14: 23)
فالمسيح الرب بذاته وبشخصه صار هوَّ نفسه قداستنا، لذلك لا تأتي قيمة أعمالنا الروحية مما نعمله نحن ونبذله من جهد، بل مما يملئنا الله به بروحه هوَّ، إذ أنه يُشكلنا على صورة الابن الحبيب طابعاً صورته الخاصة فينا بروحه، حسب ملامح طبيعته من جهة القداسة والطهارة.. الخ، وهذا يتم بالإيمان الحي العامل بالمحبة، فالقيمة الحقيقية لأعمال البرّ التي تظهر (فينا) أمام الناس هي نتيجة ما يعمله هو فينا، وهو يظهر كثمر في حياتنا الشخصية، لذلك حينما يرون أعمالنا يمجدوا أبانا الذي في السماوات لأن هو مصدرها.
+ الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة لا بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل الأزمنة الأزلية؛ لا بأعمال في برّ عملناها نحنُ، بل بمقتضى رحمته خلصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس؛ لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة، قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها. (2تيموثاوس 1: 9؛ تيطس 3: 5؛ أفسس 2: 10)
+ وأما من يفعل الحق فيُقبل إلى النور لكي تظهر أعماله أنها بالله معمولة؛ فليضيء نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات. (يوحنا 3: 21؛ متى 5: 16)
يقول القديس كيرلس الكبير:
["لأنه هو سلامنا" (أفسس 2: 14) لأنه قد وحدنا مع الآب بواسطة نفسه، إذ قد رفع سبب العداوة من الوسط وأعني به الخطية، وهكذا هو يبررنا بالإيمان ويجعلنا قديسين وبلا لوم، والذين كانوا بعيدين يدعوهم قريبين إليه، وإلى جانب ذلك، فقد خلق الشعبين في إنسان واحد جديد، صانعاً سلاماً ومصالحاً الاثنين في جسد واحد مع الآب. لأنه قد سُرَّ الآب أن يجمع فيه كل الأشياء (أفسس 1: 10) في واحد جديد متكامل، وأن يربط الأشياء السفلى مع الأشياء التي فوق، ويجعل الذين في السماء والذين على الأرض رعية واحدة. لذلك فالمسيح قد صار لنا سلاماً ومسرةً، الذي به ومعه لله الآب المجد والكرامة والقدرة مع الروح القدس إلى دهر الدهور آمين][iii]

مشكلتنا في هذه الأيام الصعبة في أننا نجد هناك تعليم لبعض الجالسين على كراسي التعليم، الغير مختبرين حياة التقوى وليس لديهم حس روحي سليم ولم يحملوا رسالة العهد الجديد، قد وضعوا لنا تعليم يفصل بيننا وبين المسيح الكلمة المتجسد، أي يجعل المسيح بالنسبة لنا مجرد مثال كي ما نتبع خطواته من بعيد ونتمثل بأخلاقه وأعماله من الخارج، وكأنه أحد الأنبياء العظام أو القديسين؛ وهذا التعليم – بالطبع – جعل كل من يُريد أن يحيا بمظهر أعمال المسيح الرب، يتعثر إذ يجد أن وصاياه ثقيلة فعلياً، فهي لا تُعاش على المستوى الواقعي بحسب الإنسان الطبيعي، وهذا يشعره بل ويتيقن منه كل واحد فينا حينما يبدأ أن يحيا حياة القداسة والجهاد الروحي بقدرة إرادته ومجهوده الشخصي، لأنه يظن أن بجهاده وبأعماله يقدر أن يصل بها للمستوى الإلهي الفائق للطبيعة ويتشبه بالقديسين، ولكن الصدمة حينما يجد نفسه متعثراً غير قادر على أن يثبت في شيئاً منها إطلاقاً، فينهار روحياً ونفسياً، حتى أنه في النهاية لا يقتنع أن حياة التقوى والقداسة ممكنه لديه بحسب دعوة الكمال، بل وأن الوصية نفسها تبدو غير معقولة عنده.

فلو اتخذنا وصية المحبة كمثال، فنجد أن المعقول وما في المقدرة الطبيعية للإنسان المولود من الجسد هو العين بالعين والسن بالسن، أما الغير معقول هو: [أحبوا أعدائكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا لمبغضيكم]، وإن قالها أحد من فوق المنابر ببساطة وسهولة أو وضعها في الكتب أو في إلقاء عظة، لكن بمواجهة الواقع فأنه لا يستطيع أن يحيا بها على المستوى العملي إطلاقاً.

ومن هنا يبدأ البعض في أن يقبل ويرفض ما في الوصية على أساس المعقول واللا معقول حسب المنطق من جهة السلوك المُمكن والحياة على مستوى الواقع العملي المُعاش في الحياة اليومية.

فمن الطبيعي جداً أن نحب من يحبنا، ونزيد في محبته وأن نبذل لأجله، وأيضاً في استطاعتنا أن نقبل من يمدحنا ونرد المدح بمديح أعظم منه، فمن منا يتردد في أن يموت من أجل ابنه أو ابنته، ولكن من منا له القدرة أن يحب عدوه ويموت من أجله أو من أجل أولاد أعداءه!!

أليس هذا هو عمل الرب يسوع نفسه الذي غفر لصالبيه، أليس هذا هو طريق إلهي أي طريق تأليه الإنسان أي تقديسه في المسيح ليرتفع للمستوى الإلهي بالنعمة فيعمل أعماله بقدرة الله التي نالها: الحق، الحق، أقول لكم: من يؤمن بي فالأعمال التي أنا أعملها يعملها هو أيضاً ويعمل أعظم منها (لأني لن أكون هنا بالجسد معكم) لأني ماضٍ إلى أبي. (يوحنا 14: 12)

ولكن لنفرح ونُسرّ جداً لأن الكلمة صار جسداً وحلَّ فينا، فهو هو نفسه قداستنا، وقيمة أعمالنا هي في مدى انفتاحنا على الله وسكناه وحلوله فينا ليصير هو عمق ذاتنا؛ فالله يهب لنا ذاته في المسيح لنحيا من حياته، ونفيض بها على الآخرين أيضاً، إذ تجري من بطوننا ينابيع ماء حي وتلك هي النعمة نفسها، فهي ليست مساعده تأتينا من الخارج من وقت لآخر حينما نطلبها لتسند ضعفنا، وهذا هو الفكر البشري والمعقول للعقل والمعتاد عند الجميع كما هو ظاهر في العهد القديم، ولكن عمل الله الظاهر في سرّ التجسد حسب التدبير ليس هكذا، بل هو على نقيضه تماماً!
فالنعمة الممنوحة لنا هي سُكنى الله فينا بنفسه وبشخصه، أي بذاته هوَّ حسب مسرته الخاصة، ليعمل هو بنفسه فينا ومعنا،
ومن ثم يصبح عملنا البشري عمل الخليقة الجديدة حسب طاعتنا نحن لهُ، وفي نفس ذات الوقت عمل الله فينا كأساس ومنطلق أعمالنا كلها، وهذا يحدث بمنتهى الحرية والانسجام بين الله وبيننا، أي توافق الإرادة كما يسمى Synergy، أي توافق (خضوع وطاعة) إرادتنا مع إرادة الله الكاملة الصالحة، وبهذه الطريقة به نحيا ونتحرك ونوجد. وتلك هي النعمة التي معناها عند الآباء تأليه الإنسان أي الاتحاد بالله، أي أن تكون نعمته ومعونته حاضرة معنا لأنها فينا ولم نعد غرباء عنه أو هو غريب عنا، وليس بيننا وبينه أي فجوه، بل هو قريب منا جداً، بل أقرب إلينا من أنفسنا، لأنه بشخصه ساكناً فينا، ونحن منسجمين تمام الانسجام معه، إرادتنا خاضعه لإرادته، ومشيئتنا هي مشيئته.

ونختم هذا العنوان بكلمة القديس أثناسيوس الرسولي:
[لقد جاء (المسيح) لكي يصير الناس فيما بعد وإلى الأبد هيكلاً طاهراً للكلمة. لو كان أعداء المسيح (يتكلم عن الأريوسيين) قد فهموا ذلك وأدركوا الغاية التي من أجلها تأسست الكنيسة، وتمسكوا بهذه الغاية كأنها مرساة لهم، لما انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان][iv]
==================
[i] (برهان كرازة الرسل 6)
[ii] (ضد الهرطقات 3: 18: 7)
[iii] (عظة على ميلاد مخلصنا بالجسد)
[iv] (ضد الأريوسيين 3: 58)

رد مع إقتباس