لكل إنسان عالمه الخاص الذي يعيش فيه ، فهو منذ مولدة يستيقظ وعيه على عالم يسير فيه متجولاً في برية قاحلة ، شمسها حارقة تلهب جلده أحياناً بتقرحات تحتاج لبلسم يشفيها ، وتتشقق شفتي قلبه ويشتهي أن يشرب من نبع حلو في بقعة ظليلة إذ في أعماقه دائماً يشعر بالعطش ، فيسافر في هذه الدنيا متجولاً يبحث عن ماء ليرتوي وترتاح نفسه في ظلال الراحة من شمس الآلام التي تجرح نفسيته كل يوم ، من آلام ومشقات وأحزان وأوجاع وفراق أحباب ، وإهمال أصدقاء وسعي متواصل لا ينتهي أبداً ، بل حزن يسلم ضيق ، وضيق يبعث اليأس ويطفئ الرجاء !!!
وخلال رحلة التيه ، نراه كلما أقام خيمته في مكان ليستقر فيه ، يحفر بئراً ليجد ماء يروي به نفسه ، والعجيب وما يُدهش فعلاً ، أن تاريخ الخلاص في الكتاب المقدس يبدأ دائماً من هنا : حفر بئر ماء !!!
لذلك حينما نقرأ الكتاب المقدس ونقطع رحلة في أوائل الأسفار ، نتعجب من أحداث إقامة آبار ماء عند الآباء ، فنسمع :
+ " و فتح الله عينيها فأبصرت بئر ماء فذهبت و ملأت القربة ماء و سقت الغلام " (تك 21 : 19)
+ " و حفر عبيد اسحق في الوادي فوجدوا هناك بئر ماء حي " (تك 26 : 19)
+ " فعاد اسحق و نبش آبار الماء التي حفروها في أيام إبراهيم أبيه و طمها الفلسطينيون بعد موت أبيه و دعاها بأسماء كالأسماء التي دعاها بها أبوه " (تك 26 : 18)
وحينما نجد هذا نعبر عليه عبور الكرام ، دون أن ندرك المغزى ونعرف عمق الكتاب المقدس وتركيزه على الأحداث ، لا عبثاً ولا مرور العابرين ، بل لأهمية هذا الحدث البسيط العميق ، الذي لا يُرى إلا لمن تفتحت بصيرته الداخلية على ماء الله الحي وبنعمته ...
وتكتمل الصورة في إرميا ونسمع قوله الشهير :
" لأن شعبي عمل شرين تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم آباراً ، آباراً مشققة لا تضبط ماء " (ار 2 : 13)
فنحن كبشر صرنا غرباء في ميراثنا الخاص . كل واحد فينا يشرب من بئره الخاص ، وكل واحد مستقر قلبه عند بئره المحفور ، ويُشيد بجواره إلهه الخاص : دينه – ماله – سلطانه – حبه – معرفته ... الخ
ولكن لا زال عطشاناً ، لذلك فهو يحفر حيث يظن أنه سيجد ماء ليشرب ويرتوي !!!
يواصل الإنسان الرحلة ، وحينما يكتشف أن البئر فارغ لا ماء فيه ، أو إن وجد ماء يجده شديد الملوحة ، ليزيد عطشه بل ويحرق جوفه ويلهبه !!!
الحنين يأخذه إلى أمل الوصول إلى الماء ، وأحياناً الألم يعتصرنا حينما نسمع من داخلنا أو من الآخرين قائلين :
*هذا ليس ينبوعاً*هذا ليس ماء
*هذا ليس مفهومنا عن الماء والينبوع
*الماء لا وجود له
ولكن الإنسان الواثق من نفسه لا يمكنه أن يتخلى عن البحث أو مواصلة الانتظار : فعدم الإحساس بالعطش يعني اقترابه من رقاد الموت .
ولكن لا ينعس ولا ينام ذاك الذي يحفر في أعماق قلب الإنسان العطش والانتظار . فهو العطشان الأول بالأساس . وهو الذي يسعى في المسير إلينا منادياً النداء الأول : آدم أين أنت ، لأن كل آدم مستخبي هارباً من وجهه !!!
وهو لا يهدأ أو يسكت إلى أن يلتقينا عند آبارنا السخيفة :
فلنقم الآن من جوار آبارنا ، هاربين من أفكارنا وميولنا وشكل عبادتنا الهزيلة ، ومعرفتنا المشوشة ، وارتكازنا على ذواتنا ، ونتجول في أرجاء الكتب المقدسة بحثاً عن الآبار حتى نصل إلى الأناجيل ، وهناك نجد البئر التي عليها استراح المخلَّص ، بعد عناء سفر ، عندما أتت السامرية لتستقي منه وتأخذ المياة ...
فشربت من ينبوع ماء الحياة
الذي يشرب منه لا يعطش أبداً
ولحديثنا الممتع بقية رائعة