الجامعة
لم أدرس سوي علوم الكيمياء والصيدلة والفارماكولوجي، ولم يسعدني الحظ قط أن وقعت عيني أو يدي علي أي كتاب في الأدب والفلسفة، وهذا أمر يذهلني ويذهل كل من يعرف هذه الحقيقة! فمنزلنا كان فقيرا للغاية واخوتي درسوا جميعا في كليات عملية، فلم أسمع حتي عن اسم أديب حديث أو فيلسوف مع اني كنت في غاية التعطش للأدب والفلسفة، ولكن مصاريفي التي كنت أحصل عليها من والدي لكي أعيش في القاهرة وأدرس وأسكن واشتري الكتب وأكل طوال الشهر كانت5 جنيهات من عام1938 الي عام1943( طبعا غير مصاريف الكلية) فلم يكن يتوافر لدي مليم واحد.
في وسط العمل الناجح (1944 ـ1948)
ولما عملت بعد تخرجي في قسم المستشفيات كانت ماهيتي( أثناء الحرب بالأمر العسكري)12 جنيها فلم تكن تكفي أكلي وسكني. ولما انشغلت بشراء وإدارة اجزخانة بدمنهور لم يكن لدي دقيقة واحدة أقرأ فيها. ولما تركت العالم ودخلت دير الأنبا صموئيل لم يكن في هذا الدير مكتبة ولاكتاب واحد ولا حتي مجلة قديمة أو حديثة.
ولكن ازداد حنيني جدا للحرية في الله التي سبق وان حاولت ان أجدها في العلم والسياسة والدين، واني لي ان اجد هذه الحرية في عالم مستعبد، خصوصا في مصر التي كانت قد قيدت العلم بسلاسل التعصب والاضطهاد والفكر الضيق، وقيدت السياسة بأصنام الزعامة التي فرضت نفسها علي الشعب حتي اعتاد عليها الشعب ثم عبدها عن طواعية منهزمة، وقيدت الدين حتي جعلته تحت الوصاية، وسلسلت الانجيل بسلسلة ربطته في ركن الكنيسة، تحله عندما تشاء وتربطه عندما تشاء، وتلبسه الثوب الذي تريد: ثوبا ارثوذكسيا أو كاثوليكيا أو بروتستانتيا.
ازداد حنيني لله جدا، وازداد حبي له. وبدأت أسال. أين أجدك يا الله؟ لقد بحثت عنك في كل مكان فما وجدتك: لا في العلم، ولا في السياسة، ولا في تعصبات رجال الدين، ولا في المال الذي بدأ يملأ خزانتي. فأين أجدك؟ سؤال ظل هو موضوع صلاتي ودموعي بالنهار وأثناء العمل وبالليل أثناء هذه الصلاة. طلبت من الله بلجاجة ان يسهل خروجي من العالم لكي أعيش حرا من بني الانسان، أو بالأحري لأعيش منتهي حريتي في الله، أو علي الاطلاق أعيش في الله، كان هذا أمر غير مصدق لي ولجميع أقاربي وأصدقائي، وفي ذهني أنا أيضا. فقد بلغت درجة من النجاح في المدينة جعلت جميع الاجزخانات تعمل لي ألف حساب.
هذا بالاضافة الي أن الاجزخانة اشتهرت بالامانة والدقة، وبأني رجل اجتماعي أحب الناس والناس يحبونني.
كذلك فان علاقاتي بأسرتي وأصدقائي كانت تتسم بالمرح وليس فيها ماكان يشير الي أني أعتزم ترك العالم. كل هذا جعل خروجي وبيعي للأجزخانة أمرا شاقا جدا علي الناس وعلي، لأنه كان يتحتم ان أقابل يوميا مئات من الشخصيات تأتي خصيصا لتقنعني بالعدول عن رأيي، وبالأخص موظفو المديرية لأني كنت أعطيهم سلفا مالية تتراوح ما بين10 ـ20 جنيها يسددونها علي أقساط شهرية بدون فوائد، حتي يصرفوا منها في وقت ضيقهم خصوصا أيام أقساط المدارس، وكان معظمهم من المسلمين، هؤلاء كانوا أكثر الفئات تأثرا، وحاولوا بكل الطرق ان يثنوني عن مسيرتي.
حتي حدثت المفاضلة الفاصلة: ( البقية الموضوع القادم )