الله من البدء خلقني حراً ، بمعنى أنه يريدني أن أختاره بكل حرية دون ضغط أو إكراه أو فرض، كما شرحنا سابقاً ...
لقد سمح لي ، وسمح لكل إنسان ، لا أن يرفضه فقط بل أن يُنكر وجوده أيضاً ويفعل ما يشاء بكل حرية !!!
ومع ذلك – رغم جحود الإنسان – يستمر هو في محبته لي ، من عمق صلاحه الذي لا يحد ، يحبني محبة لا حدود لها ، ولا تتغير أبداً بل حب أبدي لا يزول ...
فهو من يشرق شمسه على الشرار والأبرار دون تمييز ، لأن الحب لا يميز بين من يقبله أو يرفضه ، لأنه يحب الكل ويشفق على الكل ويتحنن على الكل دون أن يفرق كالبشر ...
كارثة الإنسان وشقاؤه هو انقطاعه بإرادته الحرة عن شركة الله المحب ، وتاه في جو لا يناسب أصله وطبيعة خلقته ، فأصبح منساقاً إلى قوانين غريبة عن طبعه . وكما أن الولد التائه في الأدغال الموحشة ، ويحيا وسط الحيوانات ، مكتسباً منهم طريقه حياته في المأكل والمشرب ، وحتى السلوك ، ويتقيد بقانون الغابة ، يعتقد أن هذه هي دنياه الطبيعية الأصيلة ، وهكذا بالمثل الإنسان ، أعتقد على مرَّ الأيام أن السقوط والخطية والعزلة عن الله هو جوه الخاص ، فاعتاد عليه وأصبح قطعة منه لا يقدر أن ينفصل عنها ، كالمدمن على الخمر ، ويعتبرها عنصر أساسي في حياته لا يمكن أن يستغنى عنه ، وهي دخيل يولد موتاً ينخر في جسده ويزداد موتاً يوماً بعد يوم ( بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم وبالخطية الموت ، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس ) ( رو5: 12 )
وكعصفر يعيش في أسر قفص له قضبان من الذهب ، يعجب بجمالها الباطل ، ويستسلم لوضعه الذي يتمرد عليه أولاً ، ثم يقنع به بلطف المستعبد تحت مذلة ، هكذا الإنسان حينما يخضع لسلطان الخطية بإرادته المخدوعة ، ويجبر نفسه على التناسي أنه تحت عبودية ذُل الموت بالخطية ، ويحيا غريباً عن الله ، ويظن أن هذا هو عالمة وجوه الخاص !!!
ولكن شكراً لله الذي أحبنا ولم يتركنا عنه إلى الانقضاء بل تعهدنا بأنبيائه القديسين ليفتح بصيرة الإنسان على حبه ويستفيق ويعود لرشده ويحيا لله ، فهو من بادر باللقاء وقال : ((( أين أنت )))
وفي ملء الزمان ونحن بعد خطاة :
" ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب :
أنه وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلص هو المسيح الرب " ( لو2: 10 و 11 ) ( أنظر للأهمية إشعياء 53: 1 – 12 )
سقط الإنسان من النعمة وصار عارياً منها ، والله بصلاحه الطبيعي ، ومحبته التي لا تقاس أو توصف حسب عمق اتساعها الذي لا يحد ، لم يكن ممكناً أن يترك الإنسان – محبوبة الخاص – الذي خلقه على صورته يسقط من النعمة دون أن يدبر له سبيلاً للخلاص ، وقطع وعداً منذ البدء أن يخلصه وينجيه ويرفعه لأعلى رتبه ، إذ في ملئ الزمان أتخذ جسداً ( أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له فلنسبحه ونمجده وتزيده علواً على الأبد )...
يقول القديس أثناسيوس الرسولي :
[ 1- وكما أن المعلم الصالح الذي يعتني بتلاميذه ، إذ يرى أن بعضاً منهم ، لا يستفاد من العلوم التي تسمو فوق إدراكهم ، فإنه يتنازل إلى مستواهم ويعلمهم أموراً ابسط ، هكذا فعل كلمة الله كما يقول بولس " إذ كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يُخلّص المؤمنين بجهالة الكرازة ( 1كو1: 21 )
2- ولأن البشر قد تركوا التأمل في الله وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في الأعماق باحثين عن الله في عالم الحسيات ، صانعين لأنفسهم آلهة من البشر المائتين ، ومن الشياطين ، لهذا فإن محب البشر ومخلّص الجميع كلمة الله أخذ لنفسه جسداً ، ومشى كإنسان بين البشر ، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه ... وعن طريقه يعرفون الآب ]
[ 5- لأن المخلّص تمم بتأنسه عمليتي المحبة :
( أولاً ) أنه أباد الموت من داخلنا وجددنا ثانية
( ثانياً ) أنه إذ هو غير ظاهر ولا منظور ، فقد أعلن نفسه وعرّف ذاته بأعماله في الجسد ، بأنه كلمة الآب ، ومدّبر وملك الكون . ]
( تجسد الكلمة ف15 : 1 و 2 + ف16 : 5 )
ونختتم هذا الجزء بقول القديس كيرلس الكبير ، موضحاً موقف الرب يسوع من خطيتنا :
[ أننا أخطأنا في آدم أولاً ن ثم دسنا بعد ذلك الوصية المقدسة . ولكن المسيح يُهان لأجل خطايانا ، لأنه حمل خطايانا في ذاته ، كما يقول النبي ، وتألم عوضاً عنا . وصار سبب خلاصنا من الموت بتقديم جسده للموت .
ولذلك كانت الضربة التي تقبلها المسيح هي أتمام للعار الذي حمله ، ولكنها كانت تحمل خلاصنا من عبئ تعدي آدم أبينا وخطيتة ، ورغم أنه واحد إلا أنه الذبيحة الكاملة عن كل البشر وهو وحده الذي حمل عارنا ]
( عن شرح يوحنا 18 : 22 للقديس كيرلس الكبير )