الجمال هوَّ حس باطني، حس مرهف داخلي، يُثير في النفس النشوة والفرح والبهجة، وهو باعث للراحة ويُعطي استرخاء للنفس والجسد معاً، وأيضاً يُعطي لروح الإنسان نشوة خاصة فيتحول الكيان كله لعبادة صامته يتجلى فيها سرّ الشكر؛ فالشكر لا يأتي من فراغ بل من نشوة خاصة تُثار في داخل النفس من مفعول حس باطني أو حس مرهف في الباطن بالجمال..
وما الذي يُحقق الجمال بالنسبة للإنسان:
الفن... لأن غاية الفن هو تحقيق الجمال أو بالمعنى المسيحي الأصيل تجلي الجمال بشدة ظهوره، أي العمل على إظهاره بصور مختلفة.. والعامل الفعال فيه هوَّ عمل الروح القدس أي مسحة الروح القدس.
الفن هوَّ الامتداد الطبيعي للتجسد في الجمال والبهاء، فمصدره الوحيد هوَّ الفنان الأعظم الذي أبدع الكون كله، شخص المسيح الكلمة المتجسد الذي به كان كل شيء، وهوَّ الذي يشع من خلاله كل وجه من أوجه الجمال الحقيقي، بل وكل ما يصوره الفن شرط أن يكون الفنان ممتلئ من الروح القدس روح الجمال الحق.
فالروح القدس هوَّ الذي يتغلغل في كل شيء. الروح القدس كله نور، وهوَّ ينبوع كل نور. أنه يشع من خلال الجسد والثياب والألوان بل ويغمر كل شيء ضياءً وبهاء.
المسيحية ليست مجرد عقيدة، ولا مجموعة مقولات عقلية، ولا صيغة فكرية، بل هيَّ في حقيقتها عمل وحدث، فالفن الأصيل يستند وجوده في الكنيسة الأرثوذكسية إلى حدث تم في داخل الزمن وأثر فيه، وهذا الحدث هو حدث التجسد الإلهي، فاستخدام المواد الطبيعية في الكنيسة كالخشب والطوب والمقاعد والستائر والشموع والأيقونات ...الخ.. تُبين استمرار هذا الحدث وتؤكد دوامه.
والرب الإله الذي تجلى لنا في الكون كله وجماله:
"من أفواه الأطفال والرُّضع أسست حمداً..إذ أرى سماواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها.. أيها الرب سيدنا ما أمجد أسمك في كل الأرض"
(مز8: 2و3و9)
"السماوات تُحدث بمجد الله. والفلك يُخْبر بعمل يديه يومٍ إلى يوم يُذيع كلاماً وليل إلى ليل يُبدي علماً..."
(مز19: 1-2)
فهو الرب الإله الذي يتجلى لنا في روعة الألوان المتآلفة والحركات الهادئة في الطبيعة التي خلقها والتي حركت وجدان كل فنان وأسرته بروعة جمال الخالق المستتر ورائها، فحركت مشاعره وجعلته ينفعل ويقع في تجربه شعورية حتى أنه لم يستطع أن يهدأ بل أنفعل وعبر عن انفعاله بصورة فنيه رائعة تُعبر عن إحساسه المرهف بالطبيعة وان يُعبر عما في داخله من مشاعر وأحاسيس لا تُعبر إلا عن روعة الفنان الأعظم الذي خلقنا على صورته...
وقد عَبر الإنسان عن روعة الألوان والحركات الهادئة في الطبيعة عن طريق الرسم والنحت والبناء والشعر وتصميم الملابس الخ..، ويظهر الإنسان في هذا كله أنه قد تشرب من نعمة الله وتذوق عمق غنى التجسد فاستنار بكل ثنايا جسده.
والفن عموماً هوَّ تجلي الخليقة كما بدا على وجه الكلمة المتجسد، الله الكلمة..
لما اتخذ الله جسداً "والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا (وبحسب الترجمة اليوناني فينا)"، تغلغلت الإلوهة في الكون بأسره، وصار قناة لصلاحه، فبحسب قول الآباء إن دم المسيح أنساب على الأرض فتطهرت المسكونة والمادة وأصبحت جواً مناسباً لعمل الله وتجليه. لذلك تبدو لنا المادة في الفن المسيحي الأصيل وكأنها لا ثقل لها، إذ أن النعمة قد غمرتها والسماء ملأتها.
لقد نسج اللاهوت الشرقي للكنيسة بالفن، جو إلهي يتجلى فيه سر التجسد والقيامة، ومن هنا نرى سرّ الأسرار، فالغاية النهائية للتجسد هوَّ انجماع كل شيء في المسيح ويتجلى سر الله وألوهيته في الإنسان والخليقة كلها.