عظةٌ للأرشمندريت إفرام الرئيس السابق لدير
فيلوثيو الآثوسيّ
أبنائي الأعزاء،
...
نحنُ أرثوذكسيُّون، وبالعم ِ ق لا
نعرفُ سموَّ الأرثوذكسيَّةِ وعمَقها ولا
رحابتَها. يجبُ أ ْ ن نراها بكام ِ ل قُدسيَّتِها.
ما هي الأرثوذكسيَّةُ؟
الأرثوذكسيَّةُ هي الحقيقة،
والعقيدةُ القويمةُ عن اللهِ والإنسانِ
والعالم، كما سلَّمَها إلينا الإلهُ المتأنِّسُ
نفسُهُ بواسطةِ تعليمِه المتسامي، وبحياتِهِ
المقدَّسةِ وضحيَّتِه الخلاصيَّة، وكما
أكَّدَها لنا فيما بعدُ ذهنُ الرسو ِ ل بولس الملهمُ من اللهِ وقلبُه، وكما أحياها تلميذُ
المحبَّةِ والإنجيليُّو َ ن الآخرو َ ن والرسلُ بنوِر الرو ِ ح القد ِ س السماويّ، وكما سلَّمَها إلينا
الآباءُ المُحرَّكونَ بالروح، آباءُ الإسكندريَّة وفلسطين، وسوريا وكبَّادوكيا
والقُسطنطينيَّة، والجب ِ ل المقدَّ ِ س مؤخَّرًا
. كلُّ هؤلاءِ من القدِّي ِ س بوليكربس، تلميذِ
الرس ِ ل حتَّى القدِّي ِ س نيقوذيموس الآثوسيّ، المتوفَّى في بداياتِ القرنِ التاسعَ عشر،
بحكمتِهم، وقداستِهم، وبتضحياتِهم وجهاداتِهم، سلَّموا إلينا وديع َ ة استقامةِ الإيمانِ
والحياة، وكن زَ التقليدِ الأرثوذكسيّ.
الأرثوذكسيَّةُ هي ذاكَ التداخلُ الغريبُ بين العقائدِ والأخلاق، وبينَ الرؤيةِ
والعمل
. الأرثوذكسيَّةُ هي ما حدَّدتْه اﻟﻤﺠامعُ بشكلٍ رسميٍّ، تلكَ اﻟﻤﺠامعُ
المسكونيَّةُ المباركةُ التي لكنيسةِ المسيح. فالآباءُ المتوشِّحو َ ن بالله هم الذين نظموا
عِلْمَ النف ِ س بجملتِه وتأمَّلوا فيه بدقَّةٍ بالرو ِ ح الإلهيّ، وقرَّروا فيما يختصُّ بالمشاك ِ ل
الكبيرةِ التي تشغلُ الإنسا َ ن الروحيَّ ووضعوا القاعدة، وُأسسَ الحياةِ الروحيَّة، التي
هي ثقافةٌ روحيَّةٌ حقيقيَّة.
لقد دم َ غ الأرثوذكسيَّ َ ة شهداءُ كلِّ العصوِر وآلافُ الأبطا ِ ل والمعترفينَ من
الجي ِ ش المقدَّس، رجا ً لا ونساءً وأولادًا بدمائِهم الكريمة
. من مسار ِ ح روما إلى
معسكراتِ روسيا، أظهروا أنَّ المسيحيَّةَ ليستْ مجرَّدَ نظريَّةٍ بسيطةٍ بل حقيق ً ة وحياًة
وشهام ً ة لا مثي َ ل لها، والنصرَ على رخاوةِ العي ِ ش والقوى المادِّيَّة، هي الغلبةُ ومملكةُ
الروح.
وقد جاءتِ العبادةُ فيما بعدُ لتُسبِّحَ الأرثوذكسيَّ َ ة بأقوالِها الرائعةِ وتسابيحِها
المُلهَمةِ من الله، التي تربطُ بينَ الطبيعيِّ والفائ ِ ق الطبيعة، بينَ الأرضيَّاتِ
والسماويَّات، بينَ حياةِ الفردِ وحياةِ الجماعة، بينَ الدالةِ والاحترا ِ م الفائق، وبينَ ما
يَسهُ ُ ل إدراكُه والسرّ
.
في الكنيسة، وفي كلِّ قُدَّاسٍ إلهيّ، في وسطِ جوٍّ من القيامةِ والقداسةِ تتمُّ
ذبيحةُ الإلهِ المتأنِّس، حيثُ يُشاركُ المؤمنون كلُّهم
. هناك أيضًا تُسبَّحُ وتَبرزُ إنجازاتُ
عمالقةِ الإيمانِ وعلى رأ ِ س هذا الجو ِ ق مريمُ والدةُ الإله. هناكَ تُقرَّظُ العقيدة، ليس
فق ْ ط كحقيقة، بل كردٍّ على التساؤلاتِ البشريَّة...
تعريفٌ آخرُ للأرثوذكسيَّةِ هو تلكَ الشهامةُ التي رأيناها في الاستشهاد، التي لم
تتوقَّفْ فق ْ ط في ذبيحةِ الدم
. فلطالما أظهرَ أبناءُ الأرثوذكسيَّةِ بأسًا وشجاع ً ة أمامَ أيِّ
نوعٍ من الظلم، المتأتِّي إمَّا من يوليانوس الجاحدِ وإمَّا من الأريوسيِّين وأصحا ِ ب
الطبيعةِ الواحدة، أو من محاربي الإيقوناتِ، ورهبانِ اللاتين. هذه الجمهرةُ من شجعانِ
كنيستِنا الأرثوذكسيَّةِ لا تشتملُ فق ْ ط على أثناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير
والقدِّيس يوحنَّا الذهبيِّ الفم، بل وعلى القدِّيس ثاوذوروس الستوذيتيّ، رئي ِ س دي ِ ر
الستوذيون ورهباِنه كلِّهم، والقدِّي ِ س مكسيموس المعترفِ البط ِ ل العظيم، والقدِّي ِ س
مرقسَ الأفسسيِّ، وعددٍ لا يُحصى من المعت ِ رفين والمدافعينَ ببأسٍ عن إيماِننا...
لقد سلكتْ الأرثوذكسيَّةُ دائمًا طريقَ
الإنجي ِ ل الملوكيَّة
. فحافظتْ على رو ِ ح
المسيحيَّةِ صافي ً ة من دونِ زيغٍ ضدَّ هرطقاتِ الشر ِ ق المُظلمة، وفكرةِ إخضا ِ ع السلطةِ
المدنيَّةِ للبابا اللاتينيِّ، وضدَّ العقلانيَّةِ عندَ البروتستانت. لقد حافظتْ دائمًا على
المقيا ِ س والتناغم، لم يكنْ للخطإ نصيبٌ عندَها، لأنَّ الآباءَ كانوا محرَّكين بالرو ِ ح
القد ِ س ومَقودين به.
لم تزدِر الأرثوذكسيَّةُ الإنسا َ ن، ولا الحكمة، ولا الطبيع َ ة ولا الفنّ، ولم تكنْ
يومًا بمعزلٍ عن الإنسان
. لقد فسَّرَتْ كلَّ شيءٍ وأوجدَتْ حضارَة "الطبيعة" بحس ِ ب ما
تقولُ طروباريَّةُ رئي ِ س الكهنةِ باسيليوس: "أعلَنْتَ طبيعَةَ الكائناتِ وثقَّْفتْ أخلاقَ
البشر".
الأرثوذكسيَّةُ هي مسيرةُ الإنسانِ بكلِّيَّتِه إلى جابلِه، إلى التألُّه
. تقودُ الإنسا َ ن
إلى نموُّهِ الكام ِ ل في المسي ِ ح وللمسيح. ليسَتِ الأرثوذكسيَّةُ لاهوتًا بامتيازٍ فقط، بل
هي في الوقتِ ذاتِه عِلمُ النف ِ س الحقيقيّ، والآدميَّةُ الأصيلةُ والشركويَّة. هي ألماسةٌ
كثيرةُ السطوع تُبرزُ من كلِّ الجهاتِ انعكاساتٍ جديدًة للحقيقة.
فلنعرفْ أرثوذكسيَّتَنا إ ً ذا، لكن ليسَ نظريا
. ولنشعرْ ﺑﻬا ونَعِشْها بكلِّ أبعادِها،
وهكذا فق ْ ط سنستطيعُ أ ْ ن نُبرزَها ونكو َ ن جديرينَ ﺑﻬا. فأرثوذكسيَّتَنا ليس مَتحًفا ولا
ماضيًا، بل حياًة وخَْلًقا وإشعاعًا. هي المُثُلُ العظيمةُ لشعِبنا، ورجاءُ خلاصِنا الذهبيُّ
وفخرُنا في المسيح. فلنَعِ ْ ظ عنْها بشجاعةٍ وبطولةٍ كأولادٍ صالحينَ لأبطاِلها العظام.
أيَّتُها الأرثوذكسيَّةُ الفائقةُ الجمال، عروسةُ المسي ِ ح المزيَّنةُ بالدماء، لنْ ننكرَكِ
أبدًا نحنُ غيرَ المستحقِّين، ولكنْ إذا دعَتْنا الظروفُ والأزمنة، فأهِّلينا، يا صديقتَنا،
لنبذ َ ل آخرَ نقطةٍ من دمائنا، آمين
.
مقتطفات من كتاب
"فنّ الخلاص"
الجزء الأوَّل منشورات دير فيلوثيو الآثوسيّ ٢٠٠٤
&
دير رقاد والدة الإله
– حمَطوره
© ٢٠١٠