[size=×4]الغيرة المقدسة
الفصل الاول
بقلم
الباابا شنوده الثالث
الغيرة المقدسة هى نار متقدة فى قلب المؤمن تدفعه بحماس شديد للسعى بكل الجهد لأجل خلاص الناس ، وبناء الملكوت 0
وكما قيل عن السيد الرب إنه : " يريد أن جميع الناس يخلصون ، وإلى معرفة الحق يقبلون " ( 1تى 2 : 4 ) 00 هكذا أيضاً الإنسان الذى تلهبه الغيرة المقدسة ، يريد أن جميع الناس يخلصون 00 وليس فقط يريد ، إنما يعمل بكل قوته ، وبكل مشاعره ، و لا يهدأ ، كما قال داود النبى :
" إنى لا أدخل إلى مسكن بيتى ، ولا أصعد على سرير فراشى ، و لا أعطى لعينى نوماً ، ولا لأجفانى نعاسا ، و لا راحة لصدغى 0 إلى أن أجد موضعاً للرب ، ومسكنا لإله يعقوب " ( مز 131 ) 0
هكذا الذى تلهبه الغيرة المقدسة ، لا يهدأ و لا يستريح ، إلى أن يجد موضعا للرب فى قلب كل أحد ، ويخلص على كل حال قوماً ( 1كو 9 : 22 ) 0
الغيرة نار فى قلب إنسان حار بالروح ، يشتعل قلبه بمحبة الله، ومحبة الناس ، ومحبة الملكوت 0 وبكل حرارة يعمل بجدية ، ولكى يحقق رغباته المقدسة ، من جهة خلاص الناس و إنتشار الملكوت 0
ولذلك حسنا عندما أراد الله أن يرسل تلاميذه للخدمة ، حل الروح عليهم مثل السنة من نار 0
وبهذاألهبهم للخدمة ، وصارت كلماتهم فى الكرازة كلمات نارية ، كأنها اسهم من نار تلهب القلب و تحرك الضمائر ، و " لا ترجع فارغه " ( إش 55 : 11 ) 00 كلمة من القديس بطرس الرسول فى يوم الخمسين قادت ثلاث آلاف إلى الإيمان ( أع 2 : 41 ) 0 وبهذه الروح النارية ، و بهذه الغيرة المقدسة ، أتى ملكوت الله بقوة 00
إنها النار التى قال عنها السيد المسيح : " جئت لألقى ناراً على الأرض ، فماذا أريد لو اضطرمت " ( لو 12 : 49 ) 0
إنه العمل النارى الذى بدأ يو الخمسين و استمر 0 وبه وقف الرسل القديسون أمام كل قوة اليهود و كل قوة الرومان ، يشهدون للإيمان " بكل مجاهرة ، بلا مانع " ( أع 28 : 31 ) " ونعمة عظيمة كانت على جميعهم " ( أع 4 : 31 ، 33 ) 0
ما أجمل قول المزمور : " الذى لق ملائكته أرواحاً ، و خدامه ناراً تلتهب " ( مز 104 : 4 ) 0
فإن كنت ناراً تلتهب ، حينئذ تصلح أن تكون خادماً لله 0 إذ يجب أن يكون خدامه " حارين فى الروح " ( رو 12 : 11 ) ، لأن إلهنا نفسه قيل عنه إنه : " نار آكلة " ( تث 24 : 24 ) 0
إرمياء النبى كذلك : كانت كلمة الله فى جوفه " كنار محرقة " فلم يستطيع أن يهدأ ، ولم يقدر أن يسكت ، على الرغم من كل التعب الذى أصابه ( إر 20 : 9 ) 0 قال له الرب : "هأنذا جاعل كلامى فى فمك ناراً " ( إر 5 : 14 ) 0 وصاح إرميا : " أحشائى أحشائى 0 توجعنى جدران قلبى 0 يئن فى قلبى 0 لا أستطيع السكوت " ( إر 4 : 19 ) 0 و هوذا داود النبى يقول : " غيرة بيتك أكلتنى ، و تعييرات وقعت على " ( مز 69 : 9 ) 0
أى أن التعبير الذى يصيبك يا رب من الخطاة ، أو يصيب كنيستك وشعبك ، كأنه وقع على أنا شخصيا 0 وداود شعر بهذا فعلا ، لما عير جليات صفوف الله الحى (1صم 17 : 26 ) 0 و لم يهدأ حتى أزال ذلك العار 00
الغيرة هى حالة قلب متحمس ، و متقد بمحبة الله ، يريد أن محبة الله تصل إلى كل قلب 0 و هو إنسان يحب الله ، و يريد أن جميع الناس يحبونه معه
هو إنسان يشتغل قلبه من نحو مجد الله و نشر كلمة الله ، و يريد أن ملكوت الله ينتشر حتى يشمل كل موضع و كل أحد 0 ويريد أن الإيمان يدخل كل قلب ، و لا يفقد أحد نصيبه فى هذا الملكوت 0
الإنسان الذى يتصف بالغيرة ، يكون إنساناً متقداً بالنار 0
كلامه كالنار فى حماسته ، وصلاته كالنار فى قوتها ، و خدمته كالنار فى فاعليتها و فى امتدادها 0
بغيرته يلهب القلب ، ويشغل المشاعر ، ويقوى الارادة ويدفع السامع دفعاً نحو التوبة و نحو الملكوت ، وينخسه فى ضميره بطريقة لا يمكن أن يقاومها 00
وبعكس ذلك هناك من يتكلمون باسلوب فاتر لا يقنع أحداً و لا يأتى بثمر ، ولا تظهر فيه حرارة الروح 0
ومن أمثلة الكلمة الباردة ، توبيخ عالى الكاهن لأولاده 0
قال لهم " لا يا بنى ، ليس حسنا الخبر الذى اسمع : تجعلون شعب الله يتعدون 00 " كلام لا جدية فيه ولا حزم ولا حرارة ، لذلك لم يؤثر فيهم ، وقيل بعده : " ولم يسمعوا الصوت أبيهم " ( 1صم 2 : 23 – 25 ) 0 عرضوا أباهم لغضب الله عليه 0
مثال آخر و هو انذار لوط لأنسبائه فى سادوم 0
لم تكن فى حياته بينهم القوة التى تجعل لكلامه تأثيرا 0 لقد رأى شروهم من قبل ، ولم تكن له الغيرة المقدسة على وصية الله 0 يكفى أنه أعطاهم بناته زوجات وصاهرهم ! لذلك عندما قال لهم " قوموا اخرجوا من هذا المكان ، لأن الله مهلك المدينة " ، لم يسمعوا ، بل يقول الكتاب " فكان كمازح فى أعين أصهاره " ( تك 19 : 14 ) 0
بعكس ذلك كان بولس الرسول مثلا ، الذى أنه وقف متهما أمام فيلكس الوالى ، ويقول عنه الكتاب " وبينما كان يتكلم عن البر و التعفف و الدينونة العتيدة ارتعب فيلكس 00 " ( أع 24 : 25 ) 0 و بنفس الوضع حينما تلكم أمام أغريباس الملك ، لم يستطع هذا الملك الوثنى أن يقاوم قوة الكلام الذى كان يتكلم به بولس ، " فقال أغريباس لبولس : بقليل تقعنى أن أصير مسيحياً " ( أع 26 : 28 ) 0
الغيرة قوة فعالة ، فيها الاهتمام و الجدية ، و ليست فيها رخاوة 0
فقد قال الكتاب " ملعون من يعمل عمل الرب برخاوة " ( أر 48 : 10 ) 0 لذلك كان خدام الله المتصفون بالغيرة ، يعملون بكل جهد وقوة وبذل ولعلنا سنشرح ذلك فى الفصل الخاص ( بشروط الغيرة ) 0
قال الرب لتلاميذه : هلم ورائى فاجعلكم صيادى الناس ( مت 4 : 19 ) 0
و الصياد المفروض فيه أن يبحث عن الأماكن التى يوجد فيها اسماك ، و التى يمكن فيها الصيد ، ويضع الطعم ، ويرمى الشبكة ، ويجاهد ويصبر ، كما قال القديس بطرس " تعبنا الليل كله 00 " ( لو 5 :5 ) 0 إذن المسألة فيها تعب وجهد ، ولكنها تنتهى بالفرح كلما امتلأت الشبكة سمكاً 0
بولس الرسول كان يسهر إلى بعد منتصف الليل يعظ ( أع 20 : 7 ) 0 و معروفة قصة افتيخوس الذى نام فوقع من الطاقة ( أع 20 : 7 ) 0
وربنا يسوع المسيح ظل يعظ الناس طول اليوم ، حتى مال النهار ( لو 9 : 12 ) 0 إذن علينا أن نبذل جهداً ، بكل غيرة ، من أجل خلاص الناس 0 ، كما قال الرسول عن خدمته " فى تعب وكد ، وأسهار مراراً كثيرة " ( 1كو 11 : 27 ) 0 لخادم المتلهب بالغيرة ، لا يكتفى فقط بالتعب ، وإنما :
إنه يصلى ويقول : لتكن مشيئتك منفذة على الأرض ، كما هى منفذة فى السماء 0 وليأت ملكوتك 00
فلتملك يا رب على قلب كل أحد 0 و لتملك على الشعوب و على الأمم 00 على البلاد التى إنتشر فيها الإلحاد ، وبدأت تفقد الإحساس بوجود الله 0 ولتملك على كل واحد لا يعرفك ، ولا يعرف محبتك للبشر و خلاصك العجيب 00
و هناك شخص إذا إشتعلت الغيرة فى قلبه ، ولم يستطع أن يعمل شيئا ، يقف أمام الله ويبكى 0
يقف أمام خريطة آسيا مثلا ، ويبكى على مئات الملايين التى لا تعرف الله : ألف مليون شيوعى فى الصين لا يعرفون الله ، وكذلك حوالى خمسمائة مليون فى الهند ، وأكثر من مائتى مليون فى اليابان ، و 00 وما أكثر الذين يعبدون برهما وبوذا و كنفوشيوس 00 ! حقا أين ملكوت الله فى هذه القارة التى ولد فيها المسيح 00
متى يا رب يتحقق المزمور الذى يقول : " للرب الأرض وملؤها ، المسكونة و كل الساكنين فيها 00 " ( مز 24 ) ؟!
وماذا نقول أيضاً عن الهنود الحمر ، وعن القبائل البدائية فى أواسط أفريقيا وفى النصف الجنوبى منها 0
إن لم ينفعل من أجل الغرباء البعيدين ، فعلى الأقل يشتعل قلبه من جهة المسيحيين الذين لهم اسم المسيحية فقط ، بينما يسلكون فى حياة الإباحية و المادية ، ولا صلة لهم بالله ولا بالكنيسة ، ولا يحيون حياة روحية 00 ! ثم ماذا عن المسيحيين الذين يغيرون مذهبهم أو دينهم ، أو يعيشون بلا دين 00؟! متى يرجع هؤلاء جميعاً جميعاً إلى الله ؟! هنا وتملك الغيرة على القلب ، فيقول مع إرميا النبى :
" ياليت راسى ماء ، وعينى ينبوع دموع ، فأبكى نهاراً وليلا قتلى بنت شعبى " ( إر 9 : 1 ) 0
إنه يبكى نهاراً وليلا ، على أولئك الذين قتلتهم الخطية ، و الذين أضلهم الشياطين ، وإختاروا طريقا آخر ، واصبحوا عرضة للهلاك 0
هوذا داود النبى ، تملكه الكآبة ، وتملكة الدموع ، من أجل الخطاة الذين إنحرفوا فيقول فى غيرته للرب :
الكآبة ملكتنى من أجل الخطاة الذين تركوا ناموسك 0
رأيت الذين لا يفهمون فاكتأبت ، لأنهم لم يحفظوا أقوالك0 غاصت عيناى فى مجارى المياه ، لأنهم لم يحفظوا ناموسك ( مز 119 ) 0
نتذكر هنا صموئيل ، حينما ناح على شاول :
لما رفض الرب شاول : " إغتاظ صموئيل ، و صرخ إلى الرب الليل كله " ( 1صم 15 : 11 ) " ناح صموئيل على شاول و الرب ندم لأنه ملك شاول على إسرائيل "
( 1صم 15 : 35 ) 0
و نتذكر هنا جهاد آباء الاعتراف لأجل أولادهم :
وفى ذلك يقول القديس بولس الرسول : " أطيعوا مرشديكم واخضعوا ، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم ، :أنهم سوف يعطون حساباً ، ولكى يفعلوا ذلك بفرح غير انين " ( عب 13 : 17 ) 0
هكذا أب الاعتراف فى غيرته على خلاص أبنائه ، يبكى لأجل الخاطئ ، ويحزن
معه ، و يصوم معه ، ويداوم على المطانيات لأجله ، ويذلل نفسه لأجل خلاصه 0
ويصلى لأجل كل واحد من أولاده : يا رب إرحم فلان ، يا رب إغفر له و سامحه 0 يا رب ساعد فلان ، و أنقذه من الخطية الفلانية 0 لا تسمح يا رب أن يهلك وأن طول النهار و الليل ، له حزن ووجع فى قلبه لا ينقطع من أجل آبنائه بالروح 0 يريد أن يقول عنهم كما قال الرب للآب فى ( يو 17 : 12 ) 0
" الذين أعطيتنى حفظتهم ، ولم يهلك منهم أحد " 0
هنا و نتذكر ايضاً غيرة نحميا و كم عملت :
لقد سمع من بعض الإخوة أن سور أورشليم منهدم ، وأبوابها محروقة بالنار ، وأهلها فى شعر و عار 0 فغار غيرة للرب 0 يقول : " فلما سمعت هذا الكلام ، جلست وبكيت ، و نحت أياما وصمت وصليت أمام إله السماء وقلت : 00 هم عبيدك وشعبك الذى افتديت بقوتك العظيمة 00 " ( نح 1 : 3 ، 4 ، 10 ) 0
ولكن نحميا لم يكتف بالصلاة والنوح ، بل عمل عملاً
لقد قرر أن يكلم الملك فى هذا الأمر لقد كان ساقيا للملك وكان موقفه حساساً ، ولكنه لم يصمت فلما سأله الملك عن سر كآبته ، أجابه : " كيف لا يكمد وجهى ، و المدينة بيت مقابر آبائى خراب ، وأبوابها قد أكلتها النار ؟! " وأضاف : " إذا سر الملك ، وإذا أحسن عبدك أمامك ، ترسلنى إلى يهوذا ، إلى مدينة قبور آبائى ، فأبنيها " ( نح 2 : 3 ، 5 ) 0
وهكذا لم تكن غيره نحميا مجرد إنفعال ، وإنما كانت غيرة عملية إيجابية بناءة فسافر ، وجمع الشعب ، و نظم العمل ، وقال قولته المشهورة : " هلم فنبنى سور أورشليم ، ولا نكون بعد عاراً " ( نح 2 : 17 ) 0 و تحمل فى سبيل البناء الكثير من المتاعب و شماتة الأعداء ، ولكنه صمد فة قوة وكان العاملون معه " باليد الواحدة يعملون العمل ، وبالأخرى يمسكون السلاح " ( نح 4 : 17 ) إلى أن تم بناء السور فى أثنين و خمسين يوماً ( نح 6 : 15 ) و تفرغ بعد هذا للإصلاحات الروحية وقيادة الشعب إلى التوبة ( نح 8 – 10 ) 0
حقا أن غيرة القلب تدفع إلى الكآبة وإلى البكاء من أجل الخطاة ، كما كما تدفع أيضاً إلى العمل الكرازى فى قيادة الناس إلى الإيمان و التوبة 0 قيل عن القديس بولس لما دخل أثينا إنه : " إحتدت روحه فيه ، إذ رأى المدينة مملوءة أصناماً "
( أع 17 : 16 ) 0 لذلك كان يكلم الذين يصادفونه فى السوق كل يوم ، و دخل فى مناقشة مع الفلاسفة الأبيقوريين و الرواقيين ، و تكلم أيضاً مع الأريوس باغوس 00 كما تكلم ف مجامع اليهود 00
وهكذا فعل أبلوس ، وهو حار بالروح :
" كان هذا خبيراً فى طريق الرب 0 و كان و هو حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب وكان باشتداد يفحم اليهود جهراً مبينا بالكتب أن يسوع هو المسيح " ( أع 18 : 25 ، 28 ) 0 هناك عمل آخر فى الغيرة وهو الصراع مع الله 0
انتظرو العدد القادم
الصراع مع الله
[/size]