في أبسط حال أمام عيني ظهرت ، دخلت قاعة الدرس دونما أدنى إحساس لنا نحن المتواجدين منها بصوت ، وكأنها تركت للطبيعة فرصة للتحدث وبدون قصد ، وانتبهت عيني لسماع صوت الصورة . لا أدري لماذا اجتُذبتُ لها وكأنها الفطرة التي جبل الإنسان عليها ولها حنينه الدائم ، جلست أفكر ملياً متأملاً أسبابا كثر فهناك الكثيرات الجاذبات الفاتنات المتزينات وكذا يخاطبن العين بالصورة لكن شتان إنها صورة السطح وقشرة الألوان .
ابرزت قلمها الرصاص لتكتب شئ لا ادريه ، انتبهت لهذا ونظرت لما في يدي فوجدت ذلك التناقض الصارخ في قلمي الحبري الأحمر الذي أحمله بين أصابعي ، ولكن في هذه البقعة الفكرية الهينة ، وكأني وجدت تكاملا ما في شراسةٍ وحنان ، بين ثورةٍ ومناجاة ، بين كبرياء بتظاهر ، وكبرياء بتواضع دون أدنى احتفال منها بالكبرياء .
وبدأ التعارف البيني خلال فواصل الراحة بين المحاضرات ، فلم يخرج ذا التعارف عن حدود الزمالة الدراسية البحته .
وجائت أخرى ، بجمال ظهرت ، متألقة بأبهى صورة من الجمال وتناغم الألوان ، إنها وبحق رؤية عيني " جميلة " ! وحدث بينهما تواصل بل صارا كأصدقاء .
أما انا فصرت لا تستريح جوارحي كل يوم إلا إذا سقطت مصادفة أو عن قصد على تلك البدائية فارا من مخالبٍ خلابة تنهش الصياد . ورغم ذلك لم يحدث بيننا كلام إلا في حدود زمالة بوجود أصدقاء أو بإشراف محاضر ولم أرد في الواقع أكثر من ذلك .
وفي ذات يوم صبوح ، لم يعكر صفو صباحه شئ ، شمسٌ طالعة ، ونسيم هادئ يهف ، قبيل المحاضرة واقف انا أنتظر بداية الدرس لأدخل ... وأتت . ضاقت عيناي لتضح لها صورة الأتية من أشعة الشمس ، ولكن تبع ضيق عيني انكماش بين حاجبي ، وامتعاض على فمي ، كل ذلك كان سببه غضبٌ نبع بانفجار في داخلي وكأني رأيت عدو . إنها هي الجميلة .. ، البدائية !؟؟! كيف ؟ لقد تلونت ، ويقنت وحدي أنه تدبير شيطانة ، فهل اكون كشيطان ؟ تقدمت إليها وهي متجهة في مسارها وقلت أول ماقلت " ما هذا ؟ " فقالت ، بابتسامة تحاول إخفاء وراءها ضحكة كبرياء الجمال الوضعي " ماذا ! " فقلت " ما هذا الذي فعلتِ ؟ " فامالت راسها استغرابا وقالت بامتعاض : " ماذا !؟؟! "
فقد كان التعارف بيننا لا يسمح بهذه التساؤلات المجهولة والخاصة ، لذلك تراجعت بهمتي قليلا خاشياً حدة انفعال لا يحمد عقباه ، ورأيت حينئذ شيطاني منتشيا ، لقلة حيلتي ، فنهرته ، وواصلت ، وبقوةٍ قلت : " من أوحى لكِ أنك قبيحة كي تستعيني بجمال مستعار ؟ " لكنها قالت وبامتعاضٍ أكبر كاد يقتلعني من مكاني " !!! ماذا !!! " وكانت كلمة ترجع همتي أميالا لوراء ، وقلت في نفسي لو نطق لسانها بكلام مفيد لبنيت عليه حورا يوضح الأمر ، إلا انها ـ بماذا ـ تضع جدار يأمرني بالتوقف عند تلك الحدود . ولكني قلت لنفسي ، مُصرا " إنه الشيطان " وواصلت بقوة ، وحسست مع إصراري أن قد بدأ الشيطان يتنازل ، ويتخاذل ، فقد هدأ استغرابها من هجمتي ، وفي عينيها ترقرقت طبقة دمع لمعت ، رايتها . حينها آثرت الانسحاب ، ولكن قبل فعل ذلك قلت " أنا آسف ، ولكن لم تكوني بحاجة لشئ كي تسترعي انتباه أحد " ثم انصرفت . ودون أن احاول رمقها بعيني في ذلك اليوم ، وكانها هي الأخرى انزوت ، حتى عن الكلام فلم أسمع لها أيضا صوت ، واخذت أفكر مليا ، أتكون تفهمت قصدي ، أم تكون اعتبرتني جلفٌ متخلف ؟ وبين هذه وتلك صرت حائرا متندم ، ولكنه قد حدث ما حدث ، وسيان الآن إذ لم يكن بيننا كلام قبلا ، ولن يكون بعد إلى الأبد .
في اليوم التالي وفي راسي الموضوع لم يزل ، أتت ، أحسست بها فقط من أطراف ثيابها ، وقد اخذت تحوم مظهرة صوتها بنقاش مع الآخرين من الصديقات ، أما انا ، فأخذت انئى بلا نظر ، فلا أود رؤيتها بعيني رمز زيف متشكل ، فصرت أشيح بوجهي لأطراف أخرى في المكان وأبتعد ولكنها أخذت تستمر ، وتحوم في محيط تواجدي ، حتى دخلني إحساس ، بأن لديها ما تود قوله ، وكأني أحتج بذلك فقط كي أراها ! فنظرتُ وكانت الرسالة في أبسط حال إلى قد وصلت وما كان مني إلا رداً بابتسامة مغلفة بلمحة رضا وارتياح .
2004 ، محمد السابع