مقالات

معرفة الله على مستوى الخبرة والحياة

معرفة الله على مستوى الخبرة والحياة

الحياة المسيحية حياة واقع مُعاش، لا في السماء فحسب، بل هُنا على الأرض، لأن الأبدية امتداد لملكوت الله الذي يبدأ الآن في القلب، في قلب المسيحي الحقيقي الذي يؤمن ويعيش مع المسيح القيامة والحياة الذي غرس فيه الحياة الجديدة: [ إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً ] (2كورنثوس 5: 17)، وكخليقة جديدة ندخل في معرفة الله الحقيقية، لأن معرفة الله هي حياة النفس: [ وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ] (يوحنا 17: 3)…

والمعرفة هُنا لا يُقصد بها أن نجمع مُجرد معلومات عن الله، لأن المسيحية ليست فلسفة فكر ولكنها معرفة شخص، وهذا هو الفرق ما بين الفلسفة وبين الحياة الجديدة في المسيح يسوع، لأن الفلسفة تنحصر في الفكر، أما المسيحية تنحصر في شخص، فالمسيحي لا يتفلسف إنما يدخل في شخص تحت قانون جديد يُسمى قانون روح الحياة: [ لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني (فكني – حررني) من ناموس الخطية والموت ] (رومية 8: 2).

فالله لا يُعرف في القواميس والفهارس والمعاجم الفكرية واللاهوتية على مستوى اللفظ وإدراك العقل من جهة قدرة كل شخص على إدراك الحقائق الإلهية وفحصها حتى لو كانت صحيحة تماماً، والتي – عادة – لا يوجد فيها نصيب للغير مُتعلم أو الذي لم ينل درجة علمية عالية لأنه لم ولن يفهم الكُتب والأبحاث المتعمقة، لأن ذلك يُرسخ مفهوم المسيح الخاص بجماعة معينة ومن لهم فكر وقدرة على الاستيعاب، مع أن الرب لم يأتي للمفكرين والعُلماء وحدهم، بل للعالم كله، لأن حينما نعرف الله على مستوى الإقناع العقلي فقط بدون لقاؤه كشخص حي وحضور مُحيي، فسنتبع الإله الذي نصنعه لأنفسنا حسب قدرة استيعابنا على القراءة والفهم وإدراك عقولنا التي تتوقف على تعليم كل واحد فينا وإمكانياته العقلية وذكاءه الخاص، لأننا نضع في المخيلة أفكار عن الله، ويضعه كل واحد فينا في قالب خاص تصوَّر حسب تفكيره الشخصي وما وصل إليه من نتائج من خلال قراءاته وأبحاثه، والذي لا يُمكن أن يُقيم – في هذه الحالة – لقاء حي مع الله القدوس الحاضر بقوة حياته لتسري في داخله، لأن العقل يأخذ معلومات ويحفظها بحسب قدراته، ولكنه لا يستطع أن يتذوق قوة الحياة التي في المسيح يسوع من خلال المعلومات والحفظ وإخراج الأفكار مهما ما كانت صحيحة تماماً.

فالعقل حينما تتكدس فيه المعلومات – عادة – ينتفخ الإنسان ويُقدم المعرفة النظرية الجافة للآخرين، وذلك ظناً منه أن هذا هو الخلاص وقوة حياة الإنسان، وقد يختلف بشدة وضراوة مع كل شخص لا يُقنع بفكره وقناعته التي يظن أنها استنارة ومعرفة حقيقية على مستوى الحق الذي ينبغي أن يؤمن به الجميع، لأن هذا هو– بالنسبة له – فعلاً الحق الإلهي الذي لا ينبغي أن يُنقض أبداً، أو ربما يترك الآخرين يؤمنوا ويصدقوا ما شاءوا كإنسان يشعر بحرية فكرية ولكل واحد أن يعتنق الفكر الذي يميل نحوه، وبذلك الموضوع لا يتعدى الفكر والتفكير الذي يختلف من شخص إلى شخص آخر، وكل واحد حسب قناعته الشخصية.

ولكن في الحقيقية الله روح وليس عقل (1) أو فكر أو معلومة تُقدم للناس: [ الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ] (يوحنا4: 24)

معرفة الله = حياة، بمعنى حينما نعرف الله كشخص حي وحضور مُحيي تتدفق حياته فينا، أي تسري فينا حياته كقوة نغلب بها الموت: [ من يد الهاوية أفديهم من الموت أُخلصهم أين أوباؤك يا موت أين شوكتك يا هاوية، تختفي الندامة عن عيني ] (هوشع 13: 14)، [ أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية ] (1كورنثوس 15: 55)، وبكوننا دخلنا في هذه الحياة تنفتح البصيرة لنعرف الحق [ ونعلم ان ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق، ونحن في الحق، في ابنه يسوع المسيح، هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية ] (1يوحنا 5: 20)
وبذلك نقترب إلى الله الحي كشخص وليس كفكر، نقترب بالحب والتقوى ونلتصق به فنصير معه روحاً واحداً في انسجام تام، وتصير لنا رؤية متواصلة لنور وجهه فنتغير باستمرار، إذ تنطبع فينا صورته وننمو في القداسة ونكون بلا لوم أمامه في المحبة، لأن محبة إلهنا انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا (رومية 5: 5)

  • + لأن هذه مشيئة الذي أرسلني أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير – يوحنا 6: 40
    + لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت – رومية 8: 2
    + وأما من التصق بالرب فهو روح واحد – 1كورنثوس 6: 17
    + نحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح – 2كورنثوس 3: 18
    + كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة – أفسس 1: 4

وعلينا أن ننتبه ونعرف، أنه يوجد فرق بين معرفتين، معرفة الله على مستوى الكُتب التي تنحصر في الفكر وحسب قدرة كل إنسان، ومعرفة الله على مستوى المعرفة الشخصية الداخلية

1 – معرفة الله على مستوى الكُتب: معرفة عقلية تتوقف على قدرة الشخص على التفكير والمقارنة والبحث بدقة وعلى النشاط الذهني، وتتفاوت من قدرة عقل لعقل، وغالباً ما تؤدي للقناعة العقلية والتي يُمكن أن تتغير مع مرور الوقت تحت أي ظرف؛ والقراءة والاطلاع والمعرفة فيها منفعة ضرورية جداً – بالطبع – من جهة توليد الاشتياق في داخل القلب مع المعرفة الصحيحة والسليمة، وذلك أن كانت تهدف – حقاً – للوصول لله الحي كشخص نشتهي أن نلتقي به، أما أن توقفت على القدرة على الاستذكار والبحث العلمي والقاموسي فقط، كشيء مجرد مثل باقي العلوم، حتى لو كان صحيح 100% ، ستولد انتفاخ ويصبح الإنسان متكبر غير قابل أن يتعلم من أحد، وان اتضع يكون اتضاع للافتخار الداخلي ليظهر أنه يعرف الله وهو بعيد تمام البُعد عن شخصه الحي والمُحيي: [ وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المُقنع، بل ببرهان الروح والقوة ] (1كورنثوس 2: 4)، [ فأجاب يسوع وقال لهم أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكُتب ولا قوة الله ] (مرقس 12: 24)

2 – المعرفة الشخصية الداخلية: هي عبارة عن حس باطني واعي، ومعرفة مباشرة قلبية تنتج من لقاء حي مع ينبوع الحياة الأبدية تؤدي إلى الفرح العميق والسعادة الحقيقية والسلام الداخلي الذي لا يُنزع مهما ما كانت قسوة الظروف المُحيطة، لأن فيها لقاء شخصي جداً واتصال مباشر واعي بالله الحي، يدفع الإنسان ليسير وراء المسيح الرب بالحب والإيمان، بتقوى، وتحل عليه قوة الله (( ولننظر للقاء ربنا يسوع مع كل إنسان التقى به في الإنجيل ماذا حدث له وكيف سمع نداءه المُحيي فسار وراءه، بالرغم أن معظمهم كانوا صيادي سمك بسطاء للغاية وغير متعلمين: [ بل اختار الله جهال العالم ليخزي الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم والمزدرى وغير الموجود ليُبطل الموجود ] (1كورنثوس 1: 27و 28)؛ [ اسمعوا يا إخوتي الأحباء أما اختار الله فقراء هذا العالم أغنياء في الإيمان وورثة الملكوت الذي وعد به الذين يحبونه ] (يعقوب 2: 5 ) ))
من هنا نقدر أن نستوعب كلام ربنا يسوع حينما لم يكتفي أن يتكلم عن معرفة الكتب وحدها، بل ألحقها بكلمة ( قوة الله ): [ فأجاب يسوع و قال لهم أليس لهذا تضلون إذ لا تعرفون الكتب ولا قوة الله ] (مرقس 12: 24)

فيا إخوتي أن هدف حياتنا الحقيقي لا أن نعرف مسيح الكُتب والمراجع والبحث العلمي والفكري ( رغم أهميتها وضرورتها جداً لكل من يريد أن يبحث عن الله الحي، ولكل من نال موهبة التعليم من الله بالروح القدس )، بل لنا اليوم أن نعرف مسيح الحياة الذي يعتقنا من ناموس الخطية والموت…
فالكتب والتوقف عند المعرفة فقط لا تُعطي عتقاً من سلطان الموت والفساد وغلبة الشرّ والدخول لملكوت الله، بل المسيح يسوع – له المجد – هو وحده فقط من يُعطي عتقاً وقوة قيامة وحياة حب وسلام دائم:

  • [ أنا هو الطريق والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي ] (يوحنا 14: 6)

  • [ وتعرفون الحق والحق يُحرركم ] (يوحنا 8: 32)

  • [ فان حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحراراً ] (يوحنا 8: 36)

  • [ فأن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب ] (أشعياء 54: 10)

  • [ سلاماً أترك لكم، سلامي أُعطيكم، ليس كما يُعطي العالم أُعطيكم أنا، لا تضطرب قلوبكم ولا ترهب ] (يوحنا 14: 27)

العقل والفكر يحتاج لبرهان وبحث ومناقشات وحوارات لا تنتهي لنصل لمن هو على خطأ ومن هو على صواب، أما المعرفة الحياتية في لقاء حي وشخصي مع الله، لا يحتاج لبرهان أو إقناع عقلي أو فكري، لأن في هذا اللقاء يقين قاطع باللمس والرؤيا الداخلية:

+ الذي كان من البدء الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة – 1يوحنا 1: 1
+ الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا، وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح – 1يوحنا 1: 3

فمثلاً كيف لنا أن نعرف أن منظراً ما جميلاً أو أن قطعة موسيقية جميلة ؟ بالبرهان ؟ أم بالقراءة والتفتيش والبحث في الكتب ؟ أم حينما نرى بأنفسنا ونسمع بآذاننا !!!
لأننا نرى جمال المنظر بأعيُننا ونسمع الموسيقى بآذاننا ونشعُرها في أحاسيسنا، ونتلامس مع كل هذا كأمر واقعي حدث أمامنا واستقبلته حواسنا وأثر فينا داخلياً، ولا حاجة بنا أن يقنعنا أحد بهذا الأمر فكرياً، ولا فائدة من أن يُناقشنا أحد ليقنعنا به.

وكذلك أن لم نتلامس مع الله الحي بالإيمان الحقيقي والحب، وأن نسعى لنلتقي به، وحياتنا تترجم هذا اللقاء بتقوى ومحبة عميقة له وتُثمر لحساب مجده، فأن كلامنا سيظل نظري يتوقف على قدراتنا العقلية والفكرية، ومن يوم ليوم يتغير حسب استنتاجنا العقلي والفكري وقدراتنا على البحث والمعرفة، وهذا هو الإله الذي نكونه في ذهننا، عبارة عن مجموعة من الأفكار والمعلومات، بل ونقاوم كل من يختلف معنا بشراسة ونُهين الآخرين ونحمل روح العداوة والخصومة التي تنشأ من الجدل (2)، ونُصيَّر من أنفسنا مُعلمين للآخرين، ولكن ليس لنا حياة في داخلنا.

فلنا اليوم أن نعرف مسيح الحياة ونحيا معه في علاقة شركة على مستوى الروح والحق ونلبس قوة الله من الله وليست من أنفسنا وقدراتنا، وبالطبع أن المعرفة لا تُلغى، لأنها مهمة للغاية وضرورية جداً ونافعة لكل من نال موهبة من الله في التعليم والدراسة لأجل بُنيان الكنيسة، ولكن معرفة بلا قوة الله، أي معرفته كشخص حي وحضور مُحيي يُحرر النفس من سلطان الشر والفساد ويغيرنا لصورته كل يوم، سنضل أنفسنا بالمعرفة، بل وستبعدنا معرفتنا عن الحياة ونعيش في فلسفة كلام لا علاقة له بالله الحي والمُحيي، بل نظن أننا بذلك رجال الله ونحن أبعد ما يكون عنه، بدليل أننا لا نستطيع ان نسمع صوته وأن نحيا بالوصية التي مركزها المحبة [ حب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك – حب قريبك كنفسك ]

______________
(1) يُخطأ البعض خطأ فادح ويترجم كلمة اللوغوس على أساس أنه منشق من الفكر اليوناني الفلسفي بمعنى أنه العقل.
(2) طبعاً هذا يختلف عن الحوار اللاهوتي مع الآخر، ومقاومة البدع والهرطقات بروح الإفراز والتمييز، للذين لهم هذه الموهبة، الكلام هنا فقط على الذين يدَّعون المعرفة الروحية واللاهوتية وهم ليس لهم علاقة حقيقية مع الله الحي بالخبرة والتذوق والحياة بالوصية فعلاً بقوة عمل الروح القدس في القلب على مستوى الواقع العملي المُعاش بالإيمان الحي في شركة الكنيسة والقديسين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى