مدخل عام للكتاب المقدس

سلسلة مدخل عام للكتاب المقدس – الجزء الأول؛ (3) تابع أولاً مقدمة: الكتب المقدسة ومحور التعليم فيها

تابع سلسلة مدخل عام للكتاب المقدس
تابع المقدمة – الكتب المقدسة ومحور التعليم فيها

سلسلة مدخل عام للكتاب المقدس – الجزء الأول؛ (3) تابع أولاً مقدمة: الكتب المقدسة ومحور التعليم فيها

+ وأنك منذ الطفولة تعرف الكُتب المقدسة القادرة أن تُحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع – 2تيموثاوس 3: 15

في هذا الآية التي نطقها القديس بولس الرسول بالروح، توضح لنا دور الكُتب المُقدسة التي كُتبت بالروح في الحق لبناء النفس للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع، ومن هنا يُستعلن لنا بالروح عينه أن هذه الكُتب المقدسة ليست تحفة أدبية قديمة، أو أسفار مقدسة تحتوي على معلومات قيمة عن الله أو حتى عن فكر إنساني عالي أو تدرج فكر ثقافي في حياة شعب خاص سُميَّ شعب الله المختار، وليست ايضاً مجرد سرد تاريخي لشعب من الشعوب وتتبع أخباره من جيل لجيل، ولكن هذه الكُتب دُعيت مقدسة، ليس لأن أطلق عليها بولس الرسول هذا الاسم: [ المقدسة ]، بل بكونها إعلان إلهي في داخل الزمان، وهي إعلان بظهور يد الله العاملة وسط شعب اختاره ليظهر فيه مجده، لأن الإعلان الإلهي لا يظهر في المجهول، ولا يوضع كفكر نظري ومجرد كلمات كما نتكلم نحن، لأن الله ينطق بكلمته، وكلمه الله شخص حي وليس الفاظ منطوقه، لذلك حينما يتكلم يفعل، أي كلمته تتحول من تلقاء ذاتها لفعل ذات سلطان، لأنه يتكلم بفعل وعمل ويقطع عهد ويعطي وعد، ولو فحصنا كلمة الله سنجدها [ فعل وعمل، وعهد مقطوع على دم، ووعد مبني على هذا العهد ]، ونجد أنه من المستحيل أن ينطق الله ويتكلم ويظل كل شيء كما هو ساكن لا حراك فيه، كلمة الله = فعل وعمل…

الكتب المقدسة، أو بمعنى أدق الكتاب المقدس لأنه كتاب واحد، هو كتاب إعلان مجد الله، غرضه وهدفه خلاص الإنسان، وخلاص الإنسان ليس فكره ولا مجرد عقيدة ولا كلام عجائز وأساطير مبنية على أفكار شعوب قديمة وتطورت لتصل للمسيحية، لأن المسيحية في حقيقتها ليست دين ليتدين به الإنسان ويتجمل بكثير من الفضائل أكثر من باقي الأديان الأخرى، هذه نظره مشوهة جداً للمسيحية كلها !!!
وهذا التشويه سببه الحقيقي هو انغلاق الذهن على الإعلان الإلهي النابض بالحياة، لأن هذا الإعلان نابض بإلهام الروح في الحق، ويستحيل فهمه أن لم ينفتح الذهن الداخلي بقوة الروح عينه الذي أعطى هذا الإلهام لكل كاتبي الكتاب المقدس، فإذا كان روح الله تكلم من خلال الرجال الذين كتبوا الكتاب المقدس، فأقل ما يُمكن ان نفعله هو أن ندرسه بروح الصلاة كإعلان مُعطى من الله…

وهذه الدراسة بروح الصلاة، تتطلب قداسة، لأن ما نحن في صدده هو إعلان الله عن ذاته لنُعاين مجده، ورؤية الله تستحيل بدون قداسة، لذلك نجد أن كل كُتَّاب الكتاب المقدس، يفرزهم الله أولاً، ثم يكرسهم ويخصصهم له، أي يقدسهم لكي يستعدوا لحلول الروح للإلهام الإلهي لإعلان مجد الله، لأن بدون القداسة لا يُعاين أحد الله مهما ما بلغ من مقدرة وقوة على الفهم والاستيعاب، لأن ممكن أي أحد يقرأ الكتاب المقدس ويستوعب كلماته المكتوبة، ولكنه لن يرى مجد الله وبهاء نوره المُشع: [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6)، لذلك واجب قداسة القلب أولاً وقبل كل شيء [ القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب ] (عبرانيين 12: 14).

عموماً السبب الرئيسي لضعف الخدمة في الكنائس وعلى المواقع وحالة الأنيميا الروحية التي يُعاني منها الكثيرون، هو بسبب الافتقار للتعليم بوحي الروح القدس، لغرض خلاص النفس وإعلان مجد الله بوجه مكشوف لننظر ونتغير لتلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح القدس !!!

لأن كلمة الله لا تُلقى في الفراغ أو تستقر في العقل لتُصبح فكرة للحوار وتُطرح النقاش والجدل، وانا صح وانت خطأ، ورد من يخالفني الرأي وردي عليه، ونلف وندور في حلقات مفرغة من مضمون، وذلك لأننا لم نبلغ بعد لإلهام الروح ولم نرى مجد الله بوجه مكشوف كما في مرآة لنتغير إليه، وقراءة كل واحد لكلمة الله لم تتحول فيه لفعل وقوة حياة، لأن هدف التعليم الصحيح هو معرفة مجد الله لنتغير إليه بسر عمل الروح القدس في داخل قلوبنا، وأي تعليم (حتى لو كان صحيح) لا يُدخلنا لداخل الله، لنحيا معه في شركة مقدسة في النور، نرى وجهه ونسمع صوته، فيا إما أنا مغلق القلب وأعمى في الذهن، فلا أرى ملامح الله في هذا التعليم، أو لا أُريد أن أتوب وأرجع لله الحي عودة حقيقية، فلا أبصر نور الله لأني بإرادتي طمسته بعند قلبي وعدم توبتي، يا إما التعليم نفسه أجوف لا روح فيه ولا إلهام إلهي، بل هو خطاب من عقل لعقل، ولن يخرج عن إطار المحفوظات العقلية والفكرية التي لا روح فيها، حتى أظن أني أعرف الله، مع أني – في الواقع – عرفت معلومات عن الله وليس الله بشخصه الحي، وهذا صنم المسيحيين الذين لم يعرفوا الله بإعلان الروح وإلهامه، وساروا في منهج القداسة وتطهير القلب فعلياً، بغسل التوبة الصادقة التي يعمل فيها الروح القدس لتصير بحر غسيل النجسين بدم ابن الله الحي الذي يُطهر من أي خطية شافياً جراحات النفس الداخلية يوماً بعد يوم…

وبعد أن تحدثنا عن الكتب المقدسة بإيجاز ومحور التعليم فيها، ينبغي أن نتحدث عن التعليم المسيحي الأصيل ومعناه، لا لكي نعرف وحسب، بل لكي تنضبط حياتنا ونسلك في النور وندخل في التعاليم الإلهية في الكتاب المقدس، لأن الكتاب المقدس يحكمنا للخلاص لنُشفى من كل أوجاعنا التي تعيق حياتنا لنستطيع أن يكون لنا شركة حياة مع الله والقديسين في النور، ولكي لا نقرأ الكتاب المقدس كما تعودنا للاضطلاع أو للدفاع، أو لغرض المعلومات وتحضير الدروس أو الرد على الآخرين، بل ندخل لعمق سره الإلهي بنفس ذات الروح الذي كُتب بها …

+ التعليم المسيحي :

عندما نتكلم عن التعليم المسيحي، ينبغي علينا أن نستوعب الكلمة لا في ضوء موضوع المسيحية كدين، له فلسفته الخاصة وفكره بين الصحيح والخاطئ، بل لنا أن نغوص في معنى الكلمة من جهة الاستعلان بالروح، لأن التعليم المسيحي، تعليم استعلاني بالروح القدس في الحق، أي شخص المسيح الرب الطريق والحق، القيامة والحياة، وغرضه (أي غرض التعليم النهائي) الشركة، والشركة تقوم على اتحاد ووحدة جسد واحد في المسيح يسوع….
لذلك أن تطرق ذهننا لمفهوم آخر غير ذلك المفهوم، خرجنا للتو عن التعليم المسيحي الأصيل، وذهبنا لفلسفة الفكر حسب رأي وفكر كل شخص وظنه واعتقاده، ومن هنا يحدث انشقاق وتحزب، واحد لبولس وواحد لأبولس، كما حدث في كنيسة كورنثوس، لأن حينما لا يكون التعليم بالروح في الحق بقوة الله لا بحكمة إنسانية مقنعة، بل ببرهان الروح والقوة، يُصبح كل ما يُقدم تعاليم الناس بعيد كل البعد عن تعاليم الله، وتظهر نظريات وأفكار لا حصر لها وقد يكون الكثير منها عكس بعضها البعض، أو حتى تظهر مجرد تأملات مفرغة من قوة الله وبرهان الروح والقوة، تمس عواطف الإنسان ولكن لا تحركه نحو الشركة مع القديسين في المسيح يسوع في النور، ويتغير الإنسان حسب صورة خالقة، كخليقة جديدة في المسيح يسوع، بل يظل إنساناً تحت سلطان الموت الذي يظهر فيه في صورة اضطراب وخوف وجزع، وأحياناً اضطرابات وضيقات نفسية تطيح به بعيداً جداً عن الله، ويحيا في عمى ذهني لا يستطيع ان يُبصر نور الله المُشرق في وجه يسوع: [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس 4: 6).

+ معنى كلمة [ تعليم ] في الكتاب المقدس:

في العهد القديم نجد أن الكلمة العبرية تأتي بمعنى ( ما يتم استلامه ) و ( الموضوع أو الرسالة التي يتم تعليمها وتلقينها حسب أمر الرب وإعلانه ): [ انصتي أيتها السماوات فأتكلم ولتسمع الأرض أقوال فمي. يهطل كالمطر تعليمي ويقطر كالندى كلامي كالطل على الكلأ وكالوابل على العُشب ] (تثنية32: 1و 2)، [ اسمعوا أيها البنون تأديب الأب واصغوا لأجل معرفة الفهم. لأني أعطيكم تعليماً صالحاً فلا تتركوا شريعتي ] (أمثال 4: 1و 2)…

ونلاحظ عادة أن كلمة التعليم مرتبطة ارتباط شديد بالنحت والحفر وبالسمع المقترن بالإصغاء، وأيضاً ترتبط بالتربية والتأديب، والكلمة اليونانية في العهد الجديد تأتي بتلك المعاني: [ يُربي (تربية)، يوبخ للإصلاح، يُعلِّم، يُهذب، يُدرب (تدريب)، انضباط (يضبُط)، مُؤدِّب (يتأدب بالتعليم)، مُرشد، وصي ]، والمعنى في أصله مرتبط بكلمة [ طفل، ولد، صبي ]..
ومن ثمَّ يأتي المعنى أن يكون شخص مُعلِّم مع طفل أو ولد، ليرعاه رعاية المُربي الأمين، ليُسلمه تعليم، لتثقيفه وتدريسه، لتقويمه وتهذيبه، وترسيخ التعليم في ذهنه وعقله بغرض السلوك السليم والحياة وسط المجتمع بما يتفق مع عاداته وتقاليده الخاصة به.

عموماً من هذه المعاني المخطوطة في الكتاب المقدس، نستطيع ان نستوعب القصد والمعنى منها لنفهم ما هو التعليم الإلهي على وجه الدقة التي تظهر لنا من خلال سطور الكتاب المقدس بإعلان وتوجيه الروح القدس، روح التعليم والتربية، الذي يحفر بشخصه التعليم في القلب والذهن معاً ليتحول بسلوك وحياة بطاعتنا الحُرة والمسئولة كأطفال نتربى عند قدمي الكتاب المقدس لنتلقف التعليم كالندى في القلب:

[ ازرعوا لأنفسكم بالبرّ، احصدوا بحسب الصلاح، احرثوا لا نفسكم حرثاً، فانه وقت لطلب الرب حتى يأتي ويُعلمكم البرّ ] (هوشع 10: 12)
[ لأن الروح القدس يُعلمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه ] (لوقا 12: 12)
[ وأما المُعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يُعلمكم كل شيء ويُذكركم بكل ما قلته لكم ] (يوحنا 14: 26)
[ وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم ولا حاجة بكم إلى أن يُعلمكم أحد، بل كما تُعلمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء وهي حق وليست كذباً، كما علمتكم تثبتون فيه ] (1يوحنا 2: 27)

ومن خلال هذه الآيات نفهم كيف نتعلم ونتهذب، لأن التعليم يستحيل أن يأتي إلا من الروح القدس وحده، لذلك تهتم الكنيسة على مرّ العصور أن تُعين خداماً ممتلئين بالروح القدس، ولا تستطيع أن تسمح لأحد غير ممتلئ بالروح أن يتقدم للخدمة ( مع أن للأسف اليوم أي حد بيتقدم ويخدم كيف ما اتفق، وتسمح له الكنيسة بذلك، لأن عنده معلومات وقدرة على الكتابة والكلام والحديث.. الخ، مع أن كل من يفعل ذلك وصار مسئولاً عن تعيين خادم أو كاهن أو أسقف.. الخ، سيُدان في النهاية أمام الله الحي لأنه عن وعي وإدراك لم يلتزم بالتقليد الكنيسة الرسولي في تعيين الخدام والكهنة ورسامة الأساقفة بدون أن يتأكد من امتلائهم بالروح القدس لأجل الخدمة: [ وها أنا أُرسل إليكم موعد أبي فأقيموا في مدينة أورشليم إلى أن تلبسوا قوة من الأعالي ] (لوقا 24: 49) )…
عموماً تحرص الكنيسة (قديماً، والآن أيضاً من كل من يعرفوا الرب وامتلئوا بالروح) بشدة على ان تُقدم تعليم الرسول بولس للتحذير من جهة كلامه عن انطفاء الروح القدس في النفس [ لا تطفئوا الروح ] (1تسالونيكي 5: 19)، [ ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به خُتمتم ليوم الفداء ] (أفسس 4: 30)، وذلك بسبب أن لو انطفأ الروح القدس في القلب، كيف نُقدم تعاليم الله للآخرين، وكيف تتعلم النفس وتتهذب بالتعليم الإلهي النقي، وكيف يتنقى القلب وتتغير النفس وتصير على صورة الرب يسوع، لأن الروح القدس هو الذي يُشكلنا على صورته حينما يحفر في قلوبنا التعليم الإلهي [ بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل، بعد تلك الأيام يقول الرب، أجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً ] (ارميا 31: 33).

وبهذه الصورة يا إخوتي يتجلى أمام أعيننا كمال التعليم الإلهي، لأنه بروح الله يُعلن في القلب ويُخط في الذهن المنفتح على الإلهيات بالنعمة، لأن الرب يسوع حينما نأتي إليه تائبين طالبين مجده، يفتح أذهاننا لنفهم الكتب بالروح في الحق، فنستنير بالكلمة: [ وصايا الرب مستقيمة تفرح إياه. أمر الرب طاهر يُنير العينين ] (مزمور 19: 8)، [ عين الرب لمُحبيه (أو عين الرب على مُحبيه) وهو نصير (حماية) قدير وسند قوي، يسترهم من الحرّ ويُظللهم في الظُهيرة، ويقيهم من العثرات (والعقبات) و(نجدة عند) السقوط، الرب يُنعش (يُعلي شأن) النفس ويُنير العيون (العينين)، ويمنح الشفاء والحياة والبركة ] (سيراخ 34: 16 – 17، أو من 20 – 21 في بعض الترجمات)

ومن هُنا نرى أن الكتاب المقدس كتاب تعليم بالدرجة الأولى حسب المعنى الذي غُصنا فيه بإيجاز دون تطويل (وذلك بسبب كتابة موضوع التقليد الذي نضعه قريباً وفيه شرح مستفيض عن التعليم)، وفيه نرى أن الكتاب المقدس لا يُناقض نفسه أبداً إلا عند الذين يرفضونه كإعلان إلهي فيقولون الشيء الكثير عن شُبهات وهمية، وهما معذورون فعلاً، لأنهم في الواقع يرونها هكذا لأن هناك بُرقع وحاجز موضوع على عين الذهن فلا تقدر أن ترى مجد الله المستتر في الكلمات المكتوبة، حتى من يرد على هذه الشبهات بالمنطق بدون روح الإعلان فهو يشترك معهم في نفس ذات الرؤيا القاصرة على المنطق العقلي البعيد عن برهان الروح والقوة، أما كل من استنار برؤية الله وإعلانه عن ذاته [ نظروا إليه واستناروا ووجوههم لم تخجل ] (مزمور 34: 5)، فأنهم يروا بانفتاح الذهن بالروح، العهد الجديد مستتر في العهد القديم، والعهد القديم مُعلن وظاهر في العهد الجديد، لأن [ ناموس الله كامل ] وما يبدو أنه متناقض، يختفي تماماً عندما نُقارن الروحيات بالروحيات: [ التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يُعلمه الروح القدس قارنين الروحيات بالروحيات ] (1كورنثوس 2: 13)

وفي الجزء القادم سنتكلم عن الكتب المقدسة وتسمية الكتاب المقدس بالعهد القديم والعهد الجديد…

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى