مقالات

المفهوم الصحيح للعدل والمحبة في الله، ومعضلة الصليب هل هو عدل أم حب – عدل الله حسب تعليم الكنيسة الجامعة عن الثالوث

المفهوم الصحيح للعدل والمحبة في الله، ومعضلة الصليب هل هو عدل أم حب - عدل الله حسب تعليم الكنيسة الجامعة عن الثالوث

الصليب عدل ام حب ؟
سؤال يُطرح دائماً من معظم الناس، والمشكلة أن البعض يقتصر العدل على الله الآب، والرحمة على الابن الوحيد، فيقول: الآب عدل والابن رحمة، وذلك لكي يستطيعون أن يوفقوا الكلام ويقنعون الناس على مستوى العقل بالفداء والخلاص، وهذا الأمر يقضي على مفهوم الثالوث كإله واحد، لأن قصر صفة على أقنوم بدون آخر يعتبرهم وكأنهم شخصين منفصلين عن بعضهم البعض، فالمشكلة الحقيقية عند هؤلاء الناس هو انفصال العدل عن الحب والرحمة، مع أنه لا يوجد انفصال بينهما قط، لأن عدل الله عدل المحبة ومحبة الله تظهر في عدله، ونشكر الله أن هذا الموضوع كُتب باستفاضة عند الآباؤء وعلى الأكثر رد عليه الب صفرونيوس وهو من ىباء الكنيسة في القرن السابع أو قبله بقليل وقد قال الآتي:

+ [ نحن لا نبحث في صفات الله، ثم نُطبق بعد ذلك ما نبحث على أقانيم الثالوث. نحن لا نبدأ بمنطق وفكر الإنسان غير المستنير، ثم نتقدَّم بعد ذلك إلى قدس الأقداس، أي الثالوث القدوس؛ لأننا إذ فعلنا ذلك وقعنا في أخطاء لا علاج لها إلاَّ بالعودة إلى الإيمان. وحسب التسليم الرسولي الذي شرحه آباء الكنيسة الجامعة، والذي سبق أن شرحناه لكم في عدة فصول، نؤكد لكم الحقائق التالية :

أولاً : أقانيم الثالوث ليست أقانيم تُضاف إلى جوهر الله، بل هي أقانيم الجوهر الواحد. والجوهر الواحد ليس صفات مجرده تندرج تحت مضمون واحد هو الجوهر، بل الجوهر الواحد هو الطبيعة الإلهية التي تعلو على كل تحديد بشري، وهي الحياة الإلهية التي في أقنوم الآب، والتي وُلِدَ منها الابن أزلياً ومنها انبثق الروح القدس. وحسب هذا الإيمان، كل ما هو للأب، فهو للابن وهو أيضاً للروح القدس. ولذلك كل الصفات الإلهية مثل المحبة والقداسة والقوة والعدل، هي صفات إلهية لكل أقانيم الثالوث .

ثانياً : كل ما هو في جوهر الله هو متأقنم، فليست صفات الله هي صفات غير أقنومية تضاف للآب والابن والروح القدس، بل المحبة هي محبة الآب، وهي ذات محبة الابن، وهي ذات محبة الروح القدس. وعندما نسمع أن ” الله محبة “، فهذا يعني أنها محبة الثالوث. وعندما نسمع عن برّ الله وعدله في الأسفار، فهو برُّ أقنوم الآب وبرُّ أقنوم الابن وبرُّ أقنوم الروح القدس، ثالوث واحد في الجوهر، وجوهر واحد للثالوث.

فما هو عدل الله حسب تعليم الكنيسة الجامعة عن الثالوث ؟

إنه ليس عدل الملوك والقضاة والقانون الأرضي. ولذلك فالمجازاة حسب عدل الله إنما هي مجازاة حسب المحبة، وحسب اغتراب الإنسان أولاً عن نفسه، وثانياً عن المحبة الإلهية، وهي أصعب بكثير وأدق من تعليم الموحدَّين ( الذين لا يؤمنوا بالثالوث ) الذي يحدد عدل الله بما لديهم من شرائع هي في جملتها لا تختلف عن شرائع الأمم السابقة أو شريعة الرومان ( الإمبراطورية الرومانية )؛ لأن لكل خطية عقاب أرضي، ولكل الخطايا عقاب واحد هو نار جهنم .

هذه هي دائرة العدل حسب تعليم الموحَّدين. أما نحن، فإن عدل الله هو سؤال للإنسان عن صورة الله ومثاله الذي أُعطى له، والذي جُدَّد في المسيح، وقٌدَّس بالروح القدس. فهو سؤال عن كينونة الإنسان، وماذا فعل الإنسان بكيانه، وكيف عاش كصورة الله ؟ هذا يضع عدل الإنجيل في مستوى يختلف تماماً عن عدل الموحَّدين .

+++ س: لماذا نقول إن المجازاة هي حسب المحبة ؟

أولاً : لأن محبة الله للخطاة ظاهرةٌ في بشارة الحياة ( إنجيل الحياة ) لأن الله أحب العالم بشكل يفوق كل إدراك، وضعه الرسول في عبارة موجزة ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ” ( يو3: 16 ). هذه هي المحبة تعلو على كل صور وأشكال ورموز المحبة في العالم المنظور وغير المنظور. فكيف يجازي الله بعد ذلك بحسب قوانين وشرائع أرضية لا تحوي إعلاناً عن محبة الله ؟!

… حسب محبة الله المعلنة في الابن الوحيد نقول أن العدل الإلهي هو عدل الثالوث الواحد، عدل المخلَّص الذي مات لأجلنا وأحيانا فيه وأعطانا ميراث الملكوت. هذا يجعل الدينونة حسب الشركة وليس حسب الشريعة، ويجعل المجازاة ليس حسب تقدُّم الإنسان وفضائله وسقوطه وتوبته، بل حسب تمسكه بالإيمان، وحسب نموه الروحي في يسوع المسيح رب الخطاة وطبيب الساقطين .

ثانياً : إن اغتراب الإنسان عن الله يسبقه اغتراب الإنسان عن نفسه، عن كيانه الحقيقي، وهو ما تزرعه الخطايا فينا. وعلى سبيل المثال :

مَن يقتل، يتعلم القدرة على تدمير الحياة، أي حياة أخيه، وعندما يقول الوحي ” إن من يبغض أخاه فهو قاتل نفس ” (1يو3: 15)، فهو لا يذكر القتل بالسيف، إنما قتل الأخ بسلاح البغضة غير المنظور الذي لا يملك القانون أن يُحاسب عليه، بل يكشف عنه تعليم الإنجيل الذي يرد كل خطايا الإنسان، ليس إلى الأفعال الظاهرة، بل إلى القلب. وعندما يغترب الإنسان عن كيانه، فهو اغتراب لا يُمكن فحصه حسب الشريعة ( القانون )، بل حسب شركة هذا الإنسان في الحياة الإلهية، وحسب نوع الفساد الذي تسرَّب إلى كيانه .

فإذا كان عدل الآب هو عدل الابن وهو عدل الروح القدس، فهل هو عدل محبة الآب ومحبة الابن ومحبة الروح القدس … ؟!!

صعب علينا أن نتصوَّر عدل المحبة، ولكن سهلٌ علينا أن نتصوَّر العدل وحده والمحبة وحدها. وتصوُّر العدل وحده والمحبة وحدها هو تصوُّرٌ ساذجٌ لا يخص الإيمان، لأنه لا يوجد أقنوم ينفرد بصفة لا وجود لها في الأقنوم أو الأقنومين الآخرين من أقانيم الثالوث. وهكذا يجب علينا أن نسأل : ما هو عدل المحبـــــــــــــــــــــــة ؟

أولاً : إن مكافأة الشر بشَرٍّ مثله ليست من وصايا الإنجيل؛ لأن الذي قال: ” سمعتم أنه قيل للقدماء عينٌ بعينٍ … “، قال عكس ما وضعه علمــــاء الشريعة من اليهود. وضمَّن الصلاة نفسها غفران الإساءة ” واغفر لنا ما علينا – الصلاة الربانية “، وهذا يكفي تماماً لأن يجعل عدل الله ليس مثل عدل الشريعة، أو عدل قضاة الأرض.

ثانياً : لقد كان للقاتل الذي قتل بدون عَمْد وإصرار حق اللجوء إلى ” مدن الملجأ ” ( سفر العدد 35: 6 )؛ لأنه لم يقتل عن غضب أو عن كراهية، وذلك – رغم أنه دمَّر حياة – إلاَّ أن الشريعة سمحت له بالحياة وأعطت له حق اللجوء. فإذا كانت الشريعة تعلو على قضاء الأمم، وتترك للقاتل فرصة الحياة، فماذا نقول عن شريعة الميل الثاني ( مت5: 41 )، وهو شذرة من صلاح الله وطول أناته (رو2: 4) الذي يقودنا إلى التوبة.

فما هو إذن عدل المحبة ؟
ما هو عدل من أرسل ابنه الوحيد ؟
وما هو عدل من مات على الصليب ؟
ما هو عدل الروح القدس الذي يسكن فينا ؟

هذه الأسئلة التي يجب أن نتكلم عنها حسبما ننال نعمةً من فوق، لأن عدل من أرسل ابنه، أي عدل الآب هو أن يردنا إليه نحن الذين كنا كورة الموت وظلاله، فقد ” أشرق علينا نور ” (مت4: 16). وعدل من مات عنا هو أن يعطي الفردوس للص اليمين وأن يغفر لصالبيه. وعدل الروح القدس هو عدل من يشفع فينا بأنات لا يُنطق بها (رو8: 26)، وهو عدل من يعاني من سكناه فينا حسب تحذير الرسول : ” لا تطفئوا الروح ..” ( 1تسالونيكي 5: 19)؛ لأن الروح، نار المحبة، يعاني من برودة القلب. ألا ترى من كل ذلك أن عدل المحبة هو أعلى وأعظم من كل صور العدل التي نعرفها ؟

+ لا يجب أن نحدد أو نحسب صفات الله دون وضعها وحصرها في إطار تدبير الخلاص المعلن في الأسفار، وحسب تعليم الآباء القديسين، بل لنتكلم باستقامة عن الله.

وهكذا إذا وضعنا عدل الله الثالوث في إطار التدبير، استطعنا أن نرى بوضوح أنه ليس فقط عدل محبة الثالوث، بل عدل قداســـة الله وصـــلاحه ورحمتـــه للبشر. وهو عدلٌ يخضع لما يُريده الله، وليس عدلاً يُملى على الله أن يتصرف مثل القضاة. ولأننا ذكرنا قبلاً أن الثالوث ليس أقانيم تضاف إلى الجوهر، بل هم معاً جوهر واحد، وحياة واحده، أكرر – بكل اســـــتقامة أرثوذكسيــــــة – إن الله ليس له طبيعة تسود عليه، وتقرر له ما يجب وما لا يجب؛ لأن هذا خاص بنا نحن البشر، بل الطبيعة والأقنوم هما معاً حقيقة واحده. نحن نولد بطبيعة لا نملك أن نُغيرها، بل نسمو بها في حدود، وهذا لا يخص الله بالمرة. لذلك من الخطأ أن نتصور أنه توجد طبيعة تعــــــارض الأقنوم، أو تُفرض عليه تصرفاً وسلوكاً معيناً.

+ س: مَن الذي فرض على الابن الوحيد رب المجد أن يُخلي ذاته ويأخذ صورة العبد ؟ هل هو العدل ، أم الصلاح ، أم المحبة ؟

لقد فصلنا صفات الله بهذا السؤال، وبذلك وقعنا في بئر وتعليم الموحَّدين الناقص الذي لا ماء فيه.
لقد تطوع الابن بسبب محبته للآب أن يقبل صورة عبد، وأن يأخذ ما هو ضد طبيعته، أي الطبيعة الإنسانية المحدودة، فهل صار الابن محدوداً بالجسد ؟ الجواب : لا .

إذن كيف أخلى ذاته وخضع – كأقنومٍ – لطبيعة ليست طبيعته ؟
والجواب هو في كلمات الرب يسوع، فهو لم يفقد حرية اختياره، بل فعل ذلك حراً وجاز كل مراحل التدبير حسب اختياره. مات بحريته، وقبل ذلك أسلم جسده بسلطانه وحسب محبته وبإرادته وحده حسب كلمات التقوى ( قداس مار مرقس ) .

هنا يجب أن يكف العقل عن بحث الأسئلة خارج حدود التدبيـــــــــر (تم شرح كلمة التدبير في المنتدى)، بل عليه يدخل أعماق التدبيــــر لكي يرى عدل إخلاء الذات في يســـــوع المسيح ربنا. وماذا نقول عن الابن وهو يجوز حياة العبد. والعبد في اتحاده وتأقنمه بالابن، يجوز جبل طابور، ويأتي بالموتى من نفاية الكون إلى الحياة، وبالابن وهو يرى جسده على الصليب ونفسه معلقه بمحبة نارية جعلــــــت الكون كله يتزلزل. هذه أمورٌ لا تخضع للبحث الفلسفي، بل يجـــــــــب أن تُـــترك لمبادئ التدبيـــــر، وهي حسبمـــا نعرفها :

أولاً : إن كل ما فعله الرب كان لتقدمنـــا ولخيرنـــا.
ثانياً : عندما أخلى ذاته، ظل الرب الواحد والإله المتجســـــــد؛ لأنه لم يكن مرة إلـــــــهاً، وفي مناسبات أخرى إنســــــاناً، فهذا ضد الاتحاد الذي لا يقبل الانقســـــــــــام.
ثالثاً : في موته المحيي، ذاق الموت بالجســــــد لكي يبيده في كيانــــــه، أي سمح للموت أن يقترب منه لكي يلاشيه.
رابعاً : أباد الجحيم بقوة لاهوته، ولكن بواسـطـــــة نفســــــه الإنسانيــــة التي أشرقت في ظلمات الجحيم مثل البرق، وهدمت كل قوات الظلمة.

ولم يفعل الرب ذلك بالعدل وحده أو بالمحبة وحدها، بل بعدل إخـــــــلاء الذات الذي يعلو على كل تصوَّرات العقل . ] (عن رسالة الأب صفرونيوس إلى تلميذه ثيؤدوروس، تحت عنوان التوبة وعمل الروح القدس في القلب، مترجم عن المخطوطة القبطية؛ الناشر : أبناء القديس البابا أثناسيوس الرسولي)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى