مصادر شرح الكتاب المقدس

سلسلة مصادر شرح الكتاب المقدس في القرن الأول وأهم الترجمات – الجزء الثاني: المدرسة التفسيرية في فلسطين والتلمود

تابع سلسلة مصادر شرح الكتاب المقدس في القرن الأول وأهم الترجمات [ الجزء الثاني]
المدرسة التفسيرية في فلسطين، لمحة تاريخية سريعة عن التلمود

 

المدرسة التفسيرية في فلسطين:

.. لقد جُمعت شروحات العهد القديم في فلسطين في ما عُرف باسم ” التلمود والترغوم “

التلمود: ومنشأ الكلمة هو الفعل [ limmed ] أي عَلَّم، وهو مجموعة تفاسير الناموس والتوراة وقد دوَّنت في شكلها النهائي عام 200ق.م، والتلمود مؤلف من ” الميشنا Mishna ” أي التفاسير التشريعية للناموس، ومؤلف من ” الجيمارا Gemara ” وهيَّ تعليق على شروحات الميشنا.

الترغوم: قد أعطيت هذه التسمية للترجمة الآرامية للتوراة وهيَّ في الكثير من أجزائها ترجمة تفسيرية وليست بترجمة حرفية.

لمحة تاريخية سريعة

سلسلة مصادر شرح الكتاب المقدس في القرن الأول وأهم الترجمات - الجزء الثاني: المدرسة التفسيرية في فلسطين والتلمودكان الكهنة وأحبار اليهود المقيمون في المعابد والمدارس الفلسطينية والبابلية هم الذين وضعوا التلمود الفلسطيني والتلمود البابلي. وكانوا يقولون إن موسى لم يترك فقط لشعبه شريعة مكتوبة تحتويها الأسفار الخمسة، بل ترك له أيضاً شريعة شفوية تلقاها التلاميذ عن المعلمين ووسعوا فيها جيلاً بعد جيل. وكان أهم ما ثار حوله الجدل بين الفريسيين و الصدوقيين الفلسطينيين هوَّ: هل هذه الشريعة الشفوية هي الأخرى من عند الله، وهل هيَّ واجبة الطاعة ؟!

وبسبب أن اعتقادهم أن جلوس موسى على الجبل لمدة أربعين يوماً، فأنها أطول من أن يتلقى فيها الشريعة على لوحي الحجر فحسب، لأن إملاء وتدوين موسى للشريعة وكتاباتها على حجر لا يُمكن ان تستهلك أكثر من بضعة ساعات، لذلك يعتبروا أن هذه المدة التي تقدس فيها موسى النبي العظيم على الأغلب قد تلقن فيها القانون أو ما يُدعى بالشريعة “التلمود” (غير الوصايا العشر المعروفة في أسفار موسى – وبالطبع لهم حق في هذا الاعتقاد، لأنه هذا واضح في الأسفار الخمسة الأولى وعلى الأخص في سفر التثنية وايضاً رؤيه مثال الخيمة كما قال القديس بولس الرسول في سفر العبرانيين “كما أوحي إلى موسى وهو مزمع أن يصنع المسكن لأنه قال أنظر أن تصنع كل شيء حسب المثال الذي أُظهر لك في الجبل” (عب 8: 5) – أما موضوع التلمود فهو شيء آخر غير كل ما أُعلن في أسفار موسى الخمسة) وقد تناقله أنبياء إسرائيل من جيل لجيل وهذا ما جعلهم يقدسون التلمود وجعلوه مساوياً لكتب العهد القديم (البنتاتيوك – أسفار موسى الخمسة) حتى أنهم عاملوه مثل معاملة الأسفار المقدسة في الكتابة والنقل، فأسلوب الكتابة والنقل عند اليهود أسلوب دقيق للغاية له قواعد يسير عليها الكاتب الذي ينقل الأسفار المقدسة وهي كالتالي:

[ الكتابة تكون على جلد طاهر ويحتوي كل رق على عدد معين من الأعمدة والسطور، وجميع الكتابة تكون ضمن السطور وأي كتابة خارجها تُرفض المخطوطة بأكملها، الكتابة تكون بحبر أسود لا أحمر ولا أخضر ولا أي لون آخر، النقل يكون من الكتاب إلى الكتاب وليس إلى الذاكرة ثم الكتاب، ترك مسافات مُعينة بين الحروف (شعرة) وبين الكلمات (خيط) وبين الفقرتين (تسع حروف) وبين الأسفار (ثلاثة سطور)، لبس الملابس اليهودية، وغسل الجسد بأكمله، وعدم كتابة اسم الله بقلم مغموس حديثاً، وعدم الالتفات أثناء كتابة اسم الله ( يهوه أو إلوهيم …الخ) ولو نودي الإنسان من قِبل ملك، وتدون عدد الحروف في آخر المخطوطة وتُقارن بحيث يُعرف زيادة حرف أو نقصانه ]

وبعد تشتت اليهود عام 70ميلادياً، لم تتوقف الحياة اليهودية، فبمنتهى السرعة والنشاط، تأسست مدرسة لدراسة تفاسير العهد القديم، وإعادة تفسيرها مرة أخرى. ولم يتفق العلماء اليهود في تفاسيرهم في الكثير من النقاط، ولذلك تكونت مدرستان متنافستان، في القرن الأول الميلادي: مدرسة رابي هلليل Rabbi Hillel، ومدرسة رابي شمّاى Rabbi Shammai. هاتان المدرستان اختلفتا في مئات من النقاط المتعلقة بالشريعة اليهودية، حتى في أتفه الأمور، مثل شموع عيد الأنوار Chanuka، هل يتم إنارتها من اليمين لليسار أم العكس. إلى هذا الحد استقلت المدرستان عن بعضاهما في الفكر والأنظمة والعادات، حتى جسد التلمود خطورة ذلك بالعبارة التالية: (أن التوراة الواحدة قد ينتهي بها الأمر إلى توراتين)[1]؛ وأثناء القرون الخمسة الأولى الميلادية، قام علماء اليهود من الرابيين في بابل وفلسطين، بحماسة شديدة لشرح وتفسير كلمات العهد القديم. المجموعة الأولى التي قامت بهذا العمل هي مجموعة ( التنائيم Tannaim) أي المعلمون ( ومفردها معلم Tanna)، وهم فئة من العلماء والحكماء اليهود في القرن الأول والثاني الميلادي الذين أكملوا المجادلات وبحثوا الخلافات التي بدأت بين رابي هلليل ورابي شمّاى والذين خلفوهم ..

وأخيراً في حوالي سنة 220 ميلادية، تم تصحيح وتوفيق الخلافات والمناقشات، ثم دونها وصنفها رابي يهودا هناسى (المشهور بيهودا الأمير) Rabbi Yehuda Hanasi. وبذلك تكوّن الجزء الأول من التلمود، والذي يُعرف ب”المشناه”، ويعتبر بمثابة نواة الأدب والتراث اليهودي. وقد أُعتبر مصدراً رسمياً ومعتمداً للتشريعات والأحكام اليهودية (halacha) ؛ والقرون الثمانية التي تجمعت فيها ثمار الجدل، والأحكام، والإيضاح فكانت هي الجمارتين أو شروح المشنا، وانضمام المشنا إلى أقصر هاتين الجمارتين ليتألف منهما التلمود الفلسطيني، وإلى أطولهم ليتألف منهم التلمود البابلي.
وكانت مهمة علماء السنهدرين قبل التشتت والأحبار بعد التشتت، هي تفسير الشريعة الموسوية تفسيراً يهتدي به الجيل الجديد والبيئة الجديدة ويفيدان منه: وتوارث المعلمون جيلاً بعد جيل تفاسير هؤلاء العلماء ومناقشاتهم وآراء الأقلية والأغلبية في موضوعاها: على أن هذه الروايات الشفوية لم تدون، ولعل السبب في عدم تدوينها أن هؤلاء العلماء أرادوا أن يجعلوها مرنة قابلة للتعديل، أو لعلهم أرادوا أن يرغموا الأجيال التالية على حفظها (وهذا هو الرأي الأرجح). وكان الأحبار في الستة القرون الأولى بعد ميلاد الرب يسوع يُسمون ” التنإم Tennaim ” أي ” معلمي الشريعة ” وإذ كانوا هم وحدهم المضلعين فيها، فكانوا هم المعلمين والقضاة بين يهود فلسطين بعد تدمير الهيكل.

.. عموماً لما كثرت قرارات الأحبار وتضاعفت وأصبحت مهمة (حفظها شاقة وغير معقولة). لذلك حاول هلل و عقيبا Akiba ومإير Mair مراراً أن يصنفوها ويستعينوا على استظهارها ببعض الأساليب والرموز، ولكن هذه التصنيفات والرموز والحيل لم يحظ شيء منها بالقبول من جمهرة اليهود. وكانت نتيجة هذا أن أصبح الاضطراب في نقل الشريعة هو القاعدة العامة، ونقص عدد من يحفظون الشريعة كلها عن ظهر قلب نقصاً مروعاً، وكان مما زاد (من هذه المشكلة) تشتت اليهود الذي ساعد على نشر هذه القلة في أقطار نائية، و نحو عام 189 تابع الحبر يهودا هنسيا Jehuda Hansia[2]عمل عقيبا ومإير، وعدَّلهُ، وأعاد ترتيب الشريعة الشفوية بأكملها، ثم دونها، وزاد عليها إضافات من عنده، فكان هيَّ “مشنا الحبر يهودا”[3] وقد انتشرت بين اليهود انتشارا أصبحت معه (بعد زمنٍ ما) هي المشنا، والصورة المعتمدة لشريعة اليهود الشفوية.
و المشنا (أي التعاليم الشفوية) كما نعرفها اليوم هي الصورة النهائية لطبعات مختلفة كثيرة وحواشي متعددة أُدخلت عليها من أيام يهوذا (يهودا) إلى الآن. ولكنها مع هذا خلاصة مدمجة محكمة، وضعت لكي تحفظ عن ظهر قلب بكثرة التكرار.
وقد قبلها يهود بابل وأوربا كما قبلها يهود فلسطين، ولكن كل مدرسة فسرت أمثالها وحكمها تفسيراً يخالف ما فسرته به الأخرى، وجمعت ستة أجيال (220-500 م) من أحبار الأمورايم (الشراح) هاتين الطائفتين الضخمتين من الشروح وهما الجمارا الفلسطينية والبابلية، كما اشتركت من قبل ستة أجيال (10-220 م) من الأحبار التنإم في صياغة المشنا (الميشنا). وبذلك فعل المعلمون الجدد بمشنا يهودا ما فعله التنإم بالعهد القديم: فتناقشوا في النص، وحللوه، وفسروه، وعدلوه، ووضحوه، لكي يطبقوه على المشاكل الجديدة، وعلى ظروف الزمان والمكان. ولما قارب القرن الرابع على الانتهاء نسقت مدارس فلسطين شروطها وصياغتها في الصورة المعروفة بالجمارا الفلسطينية. وشرع رب آشي رئيس جامعة سورا حوالي ذلك الوقت في تقنين الجمارا البابلية وظل يواصل العمل في ذلك التقنين جيلاً من الزمان. وأتمه ربينا الثاني بار (ابن) شمويل، وهو أيضاً من جامعة سورا بعد مائة عام من ذلك الوقت (499).

وإذا ذكرنا أن الجمارا البابلية أطول من المشنا إحدى عشر مرة، نستطيع أن نستشف لِمَ استغرق جمعها مائة عام كاملة. وظل الأحبار السبورايم (الناطقة) مائة وخمسين سنة أخرى (500-650) يراجعون هذه الشروح الضخمة، ويصقلون التلمود البابلي الصقل الأخير.

..ولنا أن نعرف إن لفظ التلمود – كما أشرنا سابقاً – يعني التعليم. ولم يكن الأمورايم يطلقون اللفظ إلا على المشنا. أما في الاستعمال الحديث فهو يشمل المشنا و الجمارا..
و المشنا في التلمود البابلي هي بعينها مشنا التلمود الفلسطيني، ولا يختلف التلمودان إلا في الجمارا أو الشروح فهي في التلمود البابلي أربعة أمثالها في التلمود الفلسطيني.
ولغة الجمارا البابلية و الجمارا الفلسطينية هي الآرامية أما لغة المشنا فهي اللغة العبرية الجديدة تتخللها ألفاظ كثيرة مستعارة من اللغات المجاورة. وتمتاز المشنا بالإيجاز، فهي تُعَبرّ عن القانون الواحد بقليل من السطور، أما الجمارتين فتتبسطان عن قصد وتعمد، وتذكران مختلف آراء كبار الأحبار عن نصوص المشنا وتصفان الظروف التي قد تتطلب تعديل القانون وتضيفان كثيراً من الإيضاحات. ومعظم المشنا نصوص قانونية وقرارات (هَلَكا)، أما الجمارتين فبعضها هَلَكا – إعادة نص قانون أو بحثه – وبعضها هَجَدَة (التفسير الذي لم يرد في الهَلَكا). وقد عُرفت الهَجَدَة تعريفاً غير دقيق بأنها كل ما ليس هَلَكا في التلمود. وأكثر ما تسجله الهَجَدَة هو القصص والأمثلة الإيضاحية. وأجزاء من السير، والتاريخ، والطب، والفلك، والتصوف، والحث على الفضيلة، والعمل بالشريعة.
_____________________

[1] Sanhedrin 88 b
[2] في قرية صبورة بفلسطين وهيَّ تقع على بحر طبرية في فلسطين
[3] يرى أقلية من العلماء أن يهودا لم يدون مشناه، وأنها أخذت تنتقل شفوياً من جيل لجيل حتى القرن الثامن الميلادي. وممكن الرجوع (للتعرف على رأي الأغلبية) إلى = كتاب ج.ف. مور المسمى ” اليهودية في القرون الأولى من التاريخ المسيحي Judaism in thefirst centuries of the Christian era طبعة جامعة كيمبردج بولاية مشوستس عام 1932 المجلد الأول ص151 وكذلك كتاب و.أ. أوسثرلى W.O. Oesterley ، ج.هـ. بكس G.H. Box المسمى نظرة قصيرة في الآداب الدينية اليهودية في العصور الوسطى Short survey of the literature of Rabbinical and Medieval Judaism

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى