الخدمة

معرفة النفس والخدمة المقبولة

أيها الأحباء المدعوّين بروح القداسة التي بدونها لا يُعاين أحد الرب، بنعمة الله الآب من خلال يسوع المسيح بتجديد الروح القدس، إلى شركة المجد الفائق مع الثالوث القدوس في النور، ومن فيض هذه النعمة الفائقة يكثر لنا معاً نعمة الله ضابط الكل وسلامه بيسوع المسيح الحاضر معنا كل حين حسب وعده الصادق الأمين، هذا الذي لا يشعره سوى من يحيا بالتوبة والإيمان الحي بروح الوداعة و تواضع القلب.

يا إخوتي هناك من هو متغرب عن العالم وهذا ظاهر في عاداته وسلوكه وطريقة أقواله، لأنه ليس من هذا العالم بل ولا يعرفه العالم لذلك يضطهده لأنه غريب عنه، وهذا – عادةً – إيمانه ظاهر في أعماله، وكلامه يصدر من روح الوداعة الذي يسكنه، روح يسوع المسيح ربنا الوديع والمتواضع القلب، وهذا دائماً ما يراعي رعية الله ويوليها عناية فائقة وبخاصة الضال والبعيد عن حظيرة الراعي الصالح، وهو يترفق برعية الله الضالة لأنه يشفق ويتحنن على الكل لأنه يشعر أنه مثلهم كان ضالاً والآن وجد بنعمة الله…

وهناك آخر غريب عن روح مختاري الله وبعيد عنهم، يحيا مثل العالم لأنه منه، وهذا ظاهر في أعماله لأنه متغرب عن روح الوداعة وتواضع القلب، وهذا لا يُشفق على رعية المسيح بل يُبددها ويطعنها بأوجاع كثيرة، حتى أنه يجول البر والبحر والجو، ويطير من مكان لآخر لكي يربح الآخرين في صفه لأنه يظن أنه يخلصهم ويشفيهم بما يقدمه لهم، وبدون ان يدري يربحهم لهلاك النفس، إذ يربكهم بأحمال ثقيلة تثقل كاهلهم وتجعلهم يكلون ويتعبون في الطريق الذين يظنون أنهم فيه يسيرون نحو الحياة الأبدية، مع أنهم لم يصلوا للباب بعد.

وهناك آخر بدأ فعلاً في الطريق الروحي ودخل من الباب ولكنه طفلاً صغيراً لم ينمو بعد ولم يتقدم إلا قليلاً أمام الباب ولم يتعمق في الطريق ولم ينضج ووصل إلى مرحلة العمل، لكن بتسرع طفولي ظن أنه معلماً ومرشداً لمن هم في الطريق، ولا عجب لأن الطفل عادةً يحلم بالقوة والعظمة، وأنه أصبح عالم كبير أو مفكر عظيم، ولكونه لم ينضج بعد فأنه يصدق أنه يحيا هذا الواقع، ولكنه في المخيلة التي لا يستطيع ان يُميز بينها وبين الواقع، ولكن بسبب دخوله في بداية الطريق فأن الكثيرين يثقون به ويستمعون إليه وينالوا منه التعليم، مع أنه في الحقيقة ليس له تعليم، بل معرفة قليلة ممزوجة بخبرة الولادة ولا يعرف أن يقدم الطعام الذي يُناسب الناس لذلك فأنه يعرقل طريقهم عن دون دراية منه، بل وقد يفسد حياتهم ويتسبب في عثرة الكثيرين وارتباك حياتهم الشخصية، وكل هذا عن دون قصد منه او وعي، والعارفين والذين يسيرون في الطريق (وليس لهم موهبة إفراز النفوس وليس لهم الحق أن يعينوا أحد للخدمة) شجعوه بالخطأ للخدمة والمعرفة فأضروه…

لذلك يا إخوتي من يعرف نفسه يصير حكيماً يستطيع أن يعرف زمانه، ومن يعرف زمانه يعرف بسهولة كيف يسير ولا ترتبك حياته ولا يعثر الآخرين، بل يسير باستقامة محدداً رغبة قلبه ويسير نحو الطريق الذي يختار، لأن كثيرين لا يعرفون انفسهم فضلوا مع أنهم يظنون أنهم يسيرون وفق الحق في الطريق المستقيم، ومع الوقت يكتشفون أنهم لم يصلوا لشيء بعد، فتبدأ الظنون والأفكار المتقلبة تلاحقهم، حتى أن بعضهم يرتد والآخر ييأس، وآخر يستمر في طريقه الذي لا يعرف فيه شماله من يمينه، لذلك أن لم ننتبه لزماننا ونعرف أيامنا ومن نحن، من أين أتينا وإلى اين نذهب، فسنظل في اضطراب عظيم، ونورنا منطفئ وحياتنا شريدة، مبددين مجهودنا في أشياء لا تنفعنا ولا تنفع الآخرين…
ولذلك علينا كل فترة – حتى ولو سرنا صحيحاً – أن نقف لحظات ونجلس في هدوء فاحصين أنفسنا على ضوء نور كلمة الله الكاشفة، ونفتش في داخلنا هل الرب مرتاح في قلوبنا أم منزعج من سلوكنا وحياتنا لأننا نربك أنفسنا في أشياء نظن انها من الله ونافعه، مع أنها – في الواقع – ضاره جداً ومفسدة لنا وللآخرين، بل قد تربك حياتنا كلها وتبدد رعية الله الحي…

فانتبهوا يا إخوتي، لا يتسرع أحد فيكم ويتخذ كراسي التعليم والإرشاد له مجلساً، فليس كونه يعرف التعاليم الصحيح أصبح كفء لكي يكون معلماً يُعلم غيره أو يُرشد غيره، بل ينبغي أن نحمل روح يسوع المسيح، روح الحياة والوداعة وتواضع القلب، روح الموهبة التي يعطي ويقسم لكل واحد حسب قصد الله لكي يُبنى الكل معاً على أساس الرسل والأنبياء الذي بنوا على صخر الدهور شخص ربنا يسوع المسيح حجر الزاوية نفسه حياة نفوسنا كلنا.

عموماً يا إخوتي انتبهوا لما اقول جيداً جداً، أن كنتم تريدون أن تخدموا يسوع حقاً، فعلامة الخادم الحقيقي الحي بالله والذي نال منه موهبة حقيقية هو الوداعة وتواضع القلب، وتطبيق وصية المحبة بتلقائية، ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته صارخاً في وجه أحد بقسوة وحكم الدينونة، بل يترفق على الجميع كما تترفق الأم على ابنها، وبالروح يسلك ويعرف متى يفتح الحضن ليرتمي فيه من يناديهم بالمحبة، ويعرف متى يرفع عصا التأديب بالمحبة في روح الصرامة والحسم بتواضع كأب وليس كسيد، ومتى يخرج الدواء اللطيف الذي يرطب الجرح الدامي، ومتى يعصب الجرح، ومتى يستخدم المشرط الجارح لينقذ من الموت، وكل هذا – بالطبع – لا يُصنع بحكمة الناس ولا خبرة السنين، بل بعمل الروح القدس المرشد الحقيقي للخادم، ومكتوب:
[ لا تكن حكيماً في عيني نفسك، اتق الرب وابعد عن الشر ] (أمثال 3: 7)
[ لا تكن باراً كثيراً ولا تكن حكيماً بزيادة، لماذا تخرب نفسك ] (جامعة 7: 16)
وطبعاً المقصود أن لا ترتفع فوق نفسك والإمكانيات التي أعطاها لك الله، وتظن أنك حكيم أو تخترع حكمة من عندك لم تأخذها لأنك تظن أنك حكيم، فلا يصح أن نبالغ أو نعيش بما لم نأخذه، أو ندَّعي اننا حكماء قبل أن ننالها من الله، بل ينبغي أن كل واحد يحيا وفق ما أخذ من الله بدون زيادة أو نقصان.

يعطيكم فرح في الروح القدس شخص ربنا يسوع مسيح المتواضعين الذي أتى لا بمواكب فاخرة، بل في تواضع ووداعة ظهر كطفل مقمطاً في مزود، وأول من وصلت لهم البشارة وأسرعوا لزيارته هم الرعاة البسطاء الذين ليس لهم عِلم ولا معرفة، لأن الفريسيين وكل أصحاب العلم المتمرسين في المعرفة الصحيحة بكبرياء قلبهم وعجرفتهم، قد رفضهم تماماً، أما أصحاب القلوب المتواضعة قبلهم أحباء له، لأنه يقاوم المستكبرين بفكر قلبهم أما المتواضعين فيعطيهم نعمة..

حقاً أن كل الذين ينفذون وصايا الله وأوامره في اتّضاع وتصميم مملوء اعتدالاً مع حرارة قلب في المحبة، ينالون المجد السماوي لأن لهم موضعاً فيه مع جميع المُخلَّصين بيسوع المسيح. الذي به المجد لله إلى أبد الأبد آمين

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى