البنيانموضوعات بحثية للبنيان

إيماننا حي ورغبتنا أن نحيا في الله – الإله الذي أعرفه

أننا نجد أنه يوجد الكثيرين على مر العصور يرفضون الله ولا يقبلونه، فمن هو هذا الإله الذي رفضه الملحدين مثل ماركس وسارتر وغيرهما، ومن هو الإله الذي عبدته الشعوب الأخرى وأخرجوا لنا ديانات مختلفة ومتنوعة كثيرة لا حصر لها، اختلفوا فيها اشد الاختلاف واتفقوا في بعضها مع وجود تناقضات لم يستطع أحد حلها !!!
وكل واحد من هذه الأطراف، أو الجماعات المختلفة، التي تعبد إلهها الخاص، تُريد ان تقنعنا وتشدنا إلى عقيدتها على أساس أنها الحق وحده ولا يوجد غيره، والحق مطلق وواحد لا ينقسم او يتجزأ، ولا أخفي القول أن الكثير منهم (وبخاصة العلماء والمفكرين فيهم) مقنع في طرحه وفكره ومعتقده، ومن هم أشد قناعة هما الملحدين الذين يرفضون وجود اي شيء يتعلق بالإلهيات التي يعتبرونها زعم وشيمة الضعفاء الغير قادرين على تحقيق أنفسهم في هذا العالم، أو زعم الغير قادرين على تفسير ما وراء الطبيعة، فاعتمدوا على الغيبيات ليحققوا موازنة المعادلة وما يفتقرونه من معرفة تفوق إمكانياتهم…
ولكن في النهاية كلنا نتساءل: ما هذا الإله الذي يرفضونه ويريدون ان يقنعونا بما لديهم من معطيات وفرضيات متنوعة، حسب وجهة نظر كل واحد ورؤيته الخاصة !!!

كثيرين يندهشون من موقفي، إذ كثيراً يجدوني حينما أقرأ وأسمع من الآخرين نقد جارح ومباشر للمسيحية ولا أتحرك ساكناً، ولا أرد او أتناقش، مع أن في إمكاني أن أُناقش نقطة نقطة وبتركيز شديد وبفحص دقيق، ومع ذلك أرفض الدخول في أي نقاش إلا في حالات شديدة النُدرة، و هُناك – على مستوى الواقع – عدة مفكرين وأيضاً مسيحيين لديهم فكر مشوش ومشوه عن الإنجيل والمسيحية والعقيدة، وعندي الاستطاعة أن أقنع بعضهم تماماً، وقلت بعضهم وليس جميعهم، وذلك بسبب أنه يوجد آخرين متصلبين ومتشددين في عدم السمع إلا لذواتهم فقط، مع إني عموماً لم أتخذ هذا الأسلوب قط في أحاديثي كمقنع لأحد عقلياً في أي موضوع مهما ما كان نوعه، بل أترك له الحرية وما شاء من فكر، لأني أُصحح واكتب بالسرّ يتلقفه القلب المستعد للحق فقط ..
فكثيرون ألتقيهم ويلتقون بي من خلال كتاباتي أو في أحاديث مختلفة متنوعة، وأقرأ للكثيرين بغزارة وأرى الكثيرين أيضاً من الملحدين ورافضي المسيحية واسمعهم يتكلمون وينكرون المسيح والمسيحية برفض تام ولا أُحرك ساكناً، وذلك لأن شعوري أني أوافقهم تماماً في نكرانهم، ومع ذلك لم أكن أبداً منكراً لإيماني ولا أتزحزح عنه قيد شعرة، بكونه ليس مجرد إيمان، ولكنه إيمان رائي مبصر الحق، لأني لم أؤمن بالله كمجرد أني ولدت مسيحياً حسب النشأة، ولكن إيمان أتي برؤيا حقيقية وليس دروشة فكريه ولا خزعبلات عجائزية متداولة من أناس اختلطت عليهم الأمور، أو لمجرد أُناس منحازين لدينهم أو متعصبين لعقيدتهم مفتخرين بذواتهم، يشعرون أنهم الأفضل وأن لهم المواعيد والحق معهم وعندهم معجزات وخوارق تُثبت أنهم على صواب !!!
وإحساسي بمحبة وغفران الله، لم يكن إحساس نابع من تخيلاتي الشخصية بل من واقع اختباري، أرى فيه الله بعدل المحبة يلتقيني، يوبخني على خطاياي ويظهر فسادها أمامي ويعلن نتيجتها المدمرة للنفس وقوة الموت التي تحمله، ويحثني على التوبة لكي يسكب حياته في داخلي بموافقتي دون أن يقتحم حريتي …

عموماً هذا ينقلني لتساؤل قد يسأله البعض: فماذا يا ترى الذي جرى في داخلي وجعلني على هذا الحال، من تمسك بالله وإيمان حي به والتزامي بالكنيسة والتمسك بها وبالتعليم، ومع ذلك لا ارد على أحد وأدخل في جدال مع من لم يؤمن، وهذا هو الحال الذي يراه الكثيرين أنه تناقض في شخصيتي، وجعل الكل يتساءل لماذا تفعل هذا، ولماذا تقبل أمامك أن ينكر ويحطم الكثيرين صورة الله الذي تحبه وتحيا له وتلتمس قوته وغفرانه الحلو، وأحياناً يشتمونه ويجدفون عليه ويحطموا كل ما هو مقدس وكريم إلى درجة تمزيق الإنجيل وإهانتة بكل ما في الكلمة من معنى !!!

إيماننا حي ورغبتنا أن نحيا في الله - الإله الذي أعرفهفي الحقيقة يا إخوتي أنه لم يكن إلهي الحي الذي أعرفه وأحبه واحترمه، ذلك الإله الذي كانوا يحطمونه بكل قوتهم أمامي، لم يكن هو الله الثالوث القدوس، فلم يكن يحطمون سوى صورة كاريكاتورية موجوده في فكرهم الشخصي، عن الإله الذي لا يعرفونه، فلم يكن سوى صنم موجود في فكرهم، وربما نقلوه من بعض المسيحيين الذي يدَّعون أنهم مؤمنين فشوهوا منظر الله الحي وأعطوا فكره مغلوطة عنه، لذلك فأن كل ما حطموه أمامي وأمام الآخرين هو تقليد لا يُطاق لي كما كان بالنسبة لهم، فإيماننا الحي إيمان آخر غير الذي يتحدثون عنه !!!
فهم يتحدثون عن إله يذل الإنسان، يقيده، يعميه، يسحقه، يحكم عليه بالسلبية والجمود والخنوع وعدم التفكير واستخدام العقل الذي خلقه له، فيحكم عليه بطفولة أبدية. إنه إله لا يستمد عظمته إلا من ضعف الإنسان وجهله وذُله ويزرع فيه احتياجه إليه لكي يكون زليلاً تحت قدميه، إله يحتاج لمن يعبده. ولكن أين هذا الإله المزيف المصنوع من فكر الناس ورأيهم وأحاسيسهم، من ذاك الذي كشف لنا ذاته في وجه يسوع المسيح، فظهر لنا محبة مُحييه، محررة، موقظة، مقدسة، مؤلهه، أي ترفع الإنسان للمستوى الإلهي في السماويات، فيكون له فكره ويشترك في مجده كهبة ومنحة عظمى لا يستطيع أي فكر أو فلسفة أو بحث ولا حتى عقيدة ولا ممارسات خارجية أن تُعطيها للإنسان، أنه إله حي يُشاركني آلامي وضيقاتي ويُشاركني في أتعابي ويهبني راحة وسلام، ويدخلني في شركة سرية خاصه معه، بمعنى أنه هو وأنا في حالة علاقة شخصية مقدسة وخاصة للغاية…

يا أحبائي مشكلة الإلحاد ورفض الآخرين للمسيحية، لا تكمن في الملحدين ولا الغير معترفين، بل فينا نحن الذين نقول نحن حاملي شعلة الإيمان، ولا نحيا به، طبعاً لا أتكلم عن الكل وأضعها قاعدة عامة، بل أقول أنه قد أصبح اليوم الكلام عن الله كثير ولكن الذي يحمل الله في قلبه ويتشح به أقل من أقل القليلين !!!، وعموماً يعجبني قول دوستويفسكي لما فيه من عمق وخبرة: [ أن الإلحاد الكامل يقف أعلى السلم، على الدرجة قبل الأخيرة، قبل الإيمان الكامل ]…
ولذلك يا إخوتي بسبب هذه المقولة، ومن خبرتي الصغيرة، تعلمت أن أصغي للكل لكي أتعلم ما هي التصورات الصنمية التي تركناها وخلفناها وراءنا، والتي لا زالت تتسرب إلى إيماننا، لذلك تعلمت ان أنفتح على النقد القاسي وأقف بقلبي أمامه فاحصاً، هل هذا هو الإله الذي أعرفه، هل اتبع هذا الإله المزيف وأقدمه للآخرين، فأُسلم لهم إيمان مُزيف، وأضيف على الإنجيل بما لا يوجد فيه لأقنع الاخرين بفكري وعقيديتي، وبذلك أتوب وأتغير لأني أقف أمام الله الحي الذي أعرفه بإعلان ذاته عن نفسه قارعاً بابه الرفيع فيفتح لي ويصحح إيماني ويقويه برؤى وإعلانات روحية منسكبه بالنعمة ومتدفقة بتيار المحبة الروح القدس نفسه، فأُدهش واتعجب من هذا المجد المستتر في سر عمل النعمة الفائق المقدمة لنا بسبب تجسد الكلمة في الروح الواحد الذي يشع فينا مجد الله ويكسينا به …

أريدكم اليوم أن تصغوا لي يا إخوتي بقلوبكم وليس بعقلكم لتستقبلوا معلومة جديدة، بل لتدخلوا في خبرة حية فنعيش معاً كشعب الله المختار في المسيح، في أصالة إيمان حي يقودنا ويرفعنا للعلو الحلو الذي للقديسين الذين عاينوا الله وفرحوا به… يقول القديس إيرينيئوس [ إنه يستحيل أن نحيا بدون حياة، والحياة تنبثق من الله، فلكي نعيش يلزم أن نتصل بالله، والاتصال بالله يتم بمعرفته أي رؤيته وتقبل صلاحه ]

يا إخوتي أتكلم بالصدق في المسيح الرب الحق والحياة، فدققوا معي وتابعوني، لأننا لو دققنا معاً ونظرنا فاحصين تاريخ البشرية بمجمله، سنجد حتماً أن لها بداية تسير نحو نهاية، ولها غاية تصب فيها، فأين البداية وإلى أين النهاية ؟!!!
وهذا سؤال تنحصر فيه البشرية كلها، وسأله الكثيرين وعلى الأخص الفلاسفة، وهذا هو السؤال المُحيرّ للبشر جميعاً وبلا استثناء هو: [ من أنا ومن أنت !!! من أين نحن وإلى أين نذهب !!! ]
طبعاً سؤال حاول الكثيرين إجابته بشتى الطرق وفي كل الأديان، واعتمدوا على الفلسفة والكلمات لإقناع العقل، ولكن هيهات، لأن أن قَنِعَ العقل فأين الواقع الاختباري الذي فيه نرى ونلمس ونعيش الإجابة واقعياً في حياتنا اليومية، لأن الإنسان لا يُشبعه الفكر وحده بل يُريد ان يرى ويلمس ويعيش، لا فقط أن يُفكر ويقنع عقله وحده، ((وهذه مشكلة بعض الخدام الذين يركزون على العقل وإدراكه فقط))، لأنها شغلانة المفكر والمتفلسف، ولكنها ليست مقدمة للإنسان البسيط ولا للفقير المعوز، ولا للمهزوم في الشر والمغلوب بطبع فاسد يرى ليس فيه خير ولا حياة !!!
فكل الفلاسفة بكل فكرهم الضخم لم يستطيعوا أن يجيبا على هذا السؤال الذي يبدو سهل، مع أنه صعب لا من جهة الفكر إنما من جهة الحياة العملية !!!

يا إخوتي، أن الحياة قصيرة، تمضي وتمر على كل شخص فينا سريعاً، ونتلفت حولنا ونجد أنفسنا مُحاطين بالعمل ولقمة العيش، وحينما نتطلع إلى المستقبل نحلم بالسعادة والهدوء، وحينما نستمر في الأيام نجد أن الحلم يمتد، ويمتد، وتحقيقه أحياناً يطول جداً وأحياناً يقصر وأحياناً يستحيل ونيأس من تحقيقه، ولكن في النهاية الكل واقع تحت التعب والمشقة عينها، والخسارة فيها أكبر وأعظم من الربح الذي نُحصله، وهكذا نستمر كلنا بلا توقف أو فحص لننظر في أعماقنا ونرى أين نحن من إنسانيتنا الحقيقية؛ وحينما نرى أمور الدنيا معنا في يُسر وعلى ما يُرام أو نكون مبتهجين أو مرحين فرحين، ندَّعي أننا سُعداء، ولكن بعد ما يزول المؤثر الخارجي الذي فَرَحنا أو أسعدنا، نعود لحالنا الأول من ضيق وحزن لا نعرف أو ندرك سببه الحقيقي؛ وهكذا نحيا في حالة من vanity الذي هو (الشيء الأنيق المظهر من الخارج، وباطنه فراغ، تافه وعديم القيمة، وهو سراب في شكله والتيه في عمقه)

وفي حين نواجه متاعبنا ومشاكلنا هذه، لا يسعنا سوى أن نهرب منها بالعبادة التي تعلمناها لنُريح الضمير ونُهدئ أنفسنا [ قالت له المرأة (السامرية قالت للمسيح) … أباؤنا سجدوا في هذا الجبل وأنتم تقولون ( تقصد اليهود) إن في أورشليم الموضع الذي ينبغي أن يُسجد فيه. قال لها يسوع: يا امرأة صدقيني إنه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب. أنتم تسجدون لِما لستم تعلمون، أما نحن فنسجد لِما نعلم… ولكن تأتي ساعة وهي الآن حين الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لأن الآب طالب مثل هؤلاء الساجدين لهُ. الله روح والذين يسجدون لهُ فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا ] (يوحنا 4: 19 – 24)
ولكن العابدة الحقة ليست وقوف بين جدران والحضور في مكان ونطق كلمات (مع أهميتها)، ولكنها في أساس جوهرها: بحث ورؤية وحركة داخليه عمليه، نحو أصلي واستمرار وجودي، وهي اتجاه نحو الخلود برؤية واضحة وثقة أكيدة يعتريها يقين، إذ أنها واقع حي مُثمر وفعال في داخلي ولا يحتاج لإقناع من أحد !!!

إنني اليوم – أيها القارئ العزيز عند الله الحي – لا أخبرك بما هو جديد أو غريب عنك وعن الجميع، ولكني أُخبرك بالحق المُشخص –فأنا لا أقصد قط إعطاء معلومات جديدة منقولة من كتب ومراجع، فأنت وكثيرين على دراية واسعة وكافية، بل ولا أستطيع مجاراة أحد فيها، ولكني أقصد أن تعرف تلك المعرفة الشخصية النابعة من حس باطني ومعرفة مباشرة قلبية واعية تؤدي إلى سعادة حقيقية غير متغيرة أو متقلبة، والتي فيها لقاء شخصي جداً واتصال مباشر واعٍ، مدرك بإلهام وانفتاح بصيرة، ورفع الحاجز الصنمي من المعرفة الجامدة في جمود ألفاظ وأبحاث ترتسم في الفكر وتظل فيه ولا تنزل إلى القلب لتتحول لمنهج حياة مقدسة تُظهر جمال مجد الله البهي الذي يظهر في وجه يسوع: [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كورنثوس  4: 6)…

فكل ما أُريد قوله: (1) الله كشخص حي منه كل الأشياء، هو أساس وسرّ كل شيء، لأن الوجود كله يستمد منه استمراره، وهو الأصل أو جذر الأشياء التي يقوم عليه الكل، هو الأول والآخر، السبب وعلة الوجود وهو الغاية. ومعرفته هو الدخول في سرّ الحياة والخلود؛ والمعرفة هُنا ليست معلومة، ولا مجرد إيمان وتصديق فقط، بل رؤية، لذلك يقول القديس أغسطينوس: [ إني أبحث عن الله لا لكي أؤمن به فقط، ولكن لكي أرى شيئاً منه ]
ولنا أن نعلم جميعاً، أن من يُريد أن يقول: إني قد رأيت الله، فلا يقل أني رأيته في الخبز المادي أو المعجزات التي تخص وتتعلق بالجسد أو بالحياة الحاضرة، لأنك لم ترى الله، بل رأيت عمله ولكنك لم ترى شخصه، وهذه خبرة لا يُستهان بها، لأن خبرة رؤية عمل الله هو الدافع الأساسي الذي يدفعنا لنلتصق بالله الحي ونحب أن نراه، لأننا في عمله عرفناه محباً لنا، ونحن أعزاء عنده، لأني أراه بحبني ويعزني لذلك يقدم لي عمله حتى على مستوى ضعفي في تلبيه احتياجاتي المادية على مستوى الجسد…

ولكني أتكلم الآن على مرحلة أعمق وأعلى، والتي يُريدها الله أن نصل إليها، لأن مرحلة المعجزات هي مرحلة طفولة وعدم نضوج، ومن يجلس عندها ولا يتحرك يخسر الكثير، ويصير مثل توما الذي يُريد دائماً أن يرى ويُعاين من جهة الجسد، وعنده يقف، فيسمع في النهاية [ لا تلمسيني ]، لأنه يريد أن يلمس يسوع الذي في الأرض ولم يصعد بعد لكي يرتفع بعينيه إلى فوق ليطلب ما يتفق مع ملكوت الله حيث المسيح الرب جالس: [ فأن كنتم قد قمتم مع المسيح فاطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله ] (كولوسي 3: 1)، ومن هنا نفهم قول الرب لمريم [ لا تلمسيني لأني لم أصعد بعد ]، فهو في نظر مريم المسيح قبل القيامة، ولا تعرف المسيح القائم والممجد، والذي مكانه يمين العظمة والقدرة بجسم بشريتنا بجوار الآب… ولا زال للأسف كثيرين اليوم يعرفون مسيح الجسد الذي يصنع معجزات كلها تخص الجسد، فينحصروا في مسيح الجسد وكل ما يخصه دون أن يبلغوا لقيامته ويطلبوا ما هو أعلى من حدود الجسد !!!

فكل من يُريد أن يقول أني رأيت الله، لا يقول رأيته في معجزة أو آية، بل في قلبي يسكن، في أعماقي متحداً معي بالمحبة القوية في سر الاتصال الدائم، بالاتحاد بشخصه، أكلمه بقلبي كأب في ثقة البنوة التي لي في شخص المسيح الكلمة المتجسد، مع الكنيسة التي أشعر أني فيها فعلاً على مستوى الشركة كجسد واحد، فيه اليد لا تنفصل عن القدم، وعين لا تنفصل عن الأُذن…

أي أشعر في أعماقي وليس في عقلي كفكرة، إني ابن حقيقي محبوب عند الله وعزيز في عينه، والله محبوب عندي، عزيز على قلبي، وأرى بوضوح وانفتاح البصيرة، أن الرجل الحي (والمرأة طبعاً) هو مجد الله، وحياة الرجل هي رؤية الله

طبعاً أنا علم اليقين، أن كثيرين يعرفون عن المسيح أكثر مما أعرف أنا بل واكثر بكثير مني، ولكن أقل القليل الذي يعرف شخص المسيح الرب نفسه، ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ أولئك الذين يتحدثون بالأحاديث الروحية، بدون أن يتذوقوا ما يتحدثون عنه، فأنهم يُشبهون إنساناً مُسافراً في صحراء مقفرة، تحت أشعة الشمس المحرقة، ولسبب عطشه، فأنه يتخيل صورة ينبوع ماء جارٍ (سراب) ويرى نفسه وهو يشرب منه، بينما تكون شفتاه ولسانه كلها جافة، مشتعلة من شدة العطش الذي يتملكه؛ أو كمثل إنسان يتحدث عن العسل ويقول: أنه حُلو، مع أنه لم يذقه قط، ولذلك فأنه لا يعرف قوة حلاوته. هكذا هي حالة أولئك الذين يتحدثون عن الكمال والفرح (الإلهي) والتحرر من الأهواء (أي التحرر من الفعل المُحرك للخطية) دون أن يكون فيهم العمل الفعال أو المعرفة الشخصية لهذه الأمور، وليست الأشياء كلها كما يصفونها هم (حتى لو كانت صحيحة تماماً).
وإذا حُسب إنسان من هذا النوع أهلاً لأن يكتشف الحقيقة، فأنه يقول في نفسه : إني لم أجد الحقيقة كما كنت أظن، فإني كنت أتحدث في اتجاه والروح يعمل في اتجاه آخر.
لأن المسيحية هي في الحقيقة طعام وشراب، فكلما أكل الإنسان منها ازداد قلبه ولعاً بحلاوتها، ولا يتوقف أو يكتفي، بل يطلب المزيد، ويستمر يأكل بلا شبع أو امتلاء. ] (عظة 17: 12، 13)

يا إخوتي القراء، هناك دعوة مفتوحة للحياة الأبدية: [ أعطيته سلطاناً (المسيح الابن يُخاطب الآب) على كل جسدٍ ليُعطي حياة أبدية لكل من أعطيته. وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ] (يوحنا 17: 2 – 3)
والآن لنا أن نوجه أحاسيسنا إلى حيث يوجد، ونغمض أعيننا إذا اتجهتا إلى غير المسيح، ونفتحها نحو كل ما يظهر فيه المسيح الرب الله الحي والقائم بجسم بشريتنا يمين الآب..

ولنا الآن ان نعرف ما هي الحياة الروحية الحقيقية والصحيحة، التي تؤثر تأثير جوهري على النفس والجسد معاً، وهي باختصار شديد: [ حياة الله نفسه وبشخصه فينا: “والكلمة صار جسداً وحلَّ فينا” (يوحنا 1: 14) ]…
فينبغي ويتحتم علينا أن يكون لنا الإصرار على معرفة الله فينا، كما هو في ذاته، وكما يُعلن هو عن نفسه لنا: [ الله لم يَرَهُ أحدٌ قط. الابن الوحيد الذي في حضنه هو خَبَّر ] (يوحنا 1: 18)

(2) إخوتي الأحباء، أعلموا وصدقوا: النفس الإنسانية هي جوهرة ثمينة للغاية وغالية جداً، ولا يعوضها شيء في الوجود أن فسدت وتاهت، فهي جوهره الله النفسية، التي أول ما ظهرت في الفردوس، ظهرت في حالة من النقاوة والطهارة الخاصة بجمال رائع، تعكس بهاء الله ومجده بنور رائع أصيل؛ ومعرفتها في جوهرها، هي معرفة صلاح الله وصورته، ويقول الأنبا أنطونيوس الكبير: [ من عرف نفسه عرف الله، ومن عرف الله يستحق أن يعبده بالروح والحق ، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ إن الله الخالق وملك الكون، إذ هو صالح وسخي في العطاء، قد خلق الكائنات البشرية بحسب صورته هوَّ، بواسطة اللوغوس كلمته الذاتي مخلصنا يسوع المسيح ]

آن الأوان الآن يا إخوتي، أن نستوعب سرّ كرامتنا الحقيقية، وسرّ حياتنا الخالدة، لنحيا عمرنا في بهاء مجد الصورة التي خُلقنا عليها، ونعيش مستقبلنا وطموحنا، مجسدين فيهما إنسانيتنا المُقدسة في الابن الوحيد، يسوع المسيح [ الذي هو بهاء مجد الآب وسم جوهره، وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته ] (عبرانيين 1: 3)
ولنقف الآن عند كلام القديس مقاريوس الكبير متأملين أقواله بعمق الرؤيا في ذواتنا؛ فهو يقول: [ أن المسيحيين يعرفون جيداً أن النفس هي أثمن من جميع الأشياء المخلوقة، فأن الإنسان وحده هو الذي صُنع على صورة الله ومثاله… الإنسان هو أعظم قدراً… فهو وحده الذي سُرَّ به الرب… فتأمل في كرامتك وقدرك العظيم، حتى أن الله جعلك فوق الملائكة، لأنه لأجل معونتك وخلاصك، جاء هو بنفسه شخصياً إلى الأرض ] (عظة 15: 43)

أن السعادة الحقيقية، هي هبة من الله، تُمنح للإنسان في أعماقه، ولا يُمكن يمحوها تقلبات الزمان الزائل، أو احتياجاته المادية، ولا أي أحداث تحدث مهما ما كان نوعها أو طبيعتها …
هذه السعادة ليست زينة خارجية للحياة، بل هي تصبح في طياتها من صميم حياة الإنسان الداخلية، في جوهره المخلوق حسب الصورة، تُصبح في ملء حريته وكيانه، تبقى في أعماقه ثابته يتحسسها في عمق آلامه وضيقاته رغم عدم ظهورها في وجهه، أنها سمه روحية سماوية يتميز بها بنو الملكوت، لأنهم حاملين صورة الملك السماوي: [ وكما هو السماوي هكذا السمائيين أيضاً ] (1كورنثوس 15: 48)
وباختصار وإيجاز أقول مع القديس أغسطينوس لله الحي: [ خلقتنا لأجلك، وقلبنا لازال في قلق إلى أن يستقرّ ويستريح فيك ] (اعترافات أغسطينوس)

إخوتي الأحباء أعرفوا نفوسكم في الله، واعرفوا الله في نفوسكم، ويقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ أنه منذ التجسد الإلهي لم يعد الإنسان يُعرف بمعزل عن الله، ولا الله بمعزل عن الإنسان، لأن الكلمة صار جسداً ]، ومن هنا ندرك سرّ كرامتنا في المسيح، لأنه [ كل من استطاع أن يعرف كرامة نفسه، فأنه يستطيع أن يعرف قوة وأسرار اللاهوت، وبذلك ينسحق ويتضع اكثر ] (القديس مقاريوس عظة 27: 1).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى