الطقس الكنسي

الحل والربط وسلطان مغفرة الخطايا – بحث روحي لاهوتي كنسي إرشادي للخبرة والحياة (الجزء الأول)

غفران الخطايا بطبيعته مرتبط ارتباط وثيق بجوهر الإيمان المسيحي الحي العامل بالمحبة، لأن الذي يُحيي الإيمان هو المحبة، والمحبة تشع من الله بحر الغفران الأبدي، وبحر غفران الله ينبع من دم العهد الذي قطعه الرب معنا، لا بدم تيوس وعجول لا يقدر على رفع شكاية الدينونة من القلب ولا يقدر أن يطهر الضمير، بل بالكاد يسند الإنسان كمعنى تعبيري لتقديم التوبة على أساس لا تحدث مغفرة بدون سفك دم، فيها يُعلن الإنسان استحقاقه للموت واحتياجه لوسيط عهد يصالح بينه وبين الله على أساس رفع شكاية الضمير وتنقية قلب قد تلوث يحتاج لغسل مع تغيير الطبع، لكي ما يصير للإنسان طبعٌ جديد، فيه يخرج خارج سلطان الموت الذي ملك من آدم إلى كل جنس البشرية بسبب الخطية، والتي صار كل واحد مسئول عن جرمه أمام الله، ولا يستطيع ان يتملص من المسئولية، لأن الكل أخطأ وهو تحت سلطان الموت !!!
لذلك أقام لنا الله عهد غفران أبدي، إذ افتدانا لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب أو دم حيوانات تموت وتفنى، بل بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1بطرس 1: 19)، هذا الدم الكريم الذي يطهرنا من كل خطية ان اعترفنا بخطايانا لكي ما نسلك في النور ونحيا بحسب الدعوة التي دُعينا بها وهي أن نكون قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة في المسيح يسوع ربنا (أنظر رسالة يوحنا الرسول الأولى، ورسالة أفسس الإصحاح الأول)، وهذا هو أصل سلطان الحل والربط في الكنيسة المقدسة الجامعة الرسولية :

1 – ضرورة التزام المسيحي الحقيقي الحي بالإيمان بالبعد عن الخطية:
الحل والربط وسلطان مغفرة الخطايا - بحث روحي لاهوتي كنسي إرشادي للخبرة والحياة (الجزء الأول)قيامة ربنا يسوع من الأموات ينظر إليها المسيحي الحي بالإيمان على أنها إبادة سلطان الموت، وبالتالي فقد فقدت الخطية قوتها، أي أُفرغت من قوتها إذ لم يعد للموت سلطان إذ أن مَلِكه (أي الشيطان) قد فقد كل قوته ولم يعد له قدرة بسبب صليب ربنا المُحيي [ إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً ظافراً بهم فيه (الصليب) ] (كولوسي 2: 15)، الذي أصبح بالقيامة فخر المسيحي وعلامة الغلبة، لذلك تهتف الكنيسة بهتاف الخلاص بحسب التقليد الرسولي قائلة: [ أين شوكتك يا موت أين غلبتك يا هاوية ] (1كورنثوس 15: 55)، مشيرة للوعد الذي أتمه الله الأمين في كل وعد يخرج من فمه: [ من يد الهاوية أفديهم، من الموت أُخلصهم، أين أوباؤك يا موت، أين شوكتك يا هاوية، تختفي الندامة عن عيني ] (هوشع 13: 14).
وبكوننا الآن لنا الحرية إذ خرجنا من تحت سلطان الموت لسلطان الحياة في المسيح يسوع [ لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني (فكني) من ناموس الخطية والموت ] (رومية 8: 2)، لذلك فقط أصبح الانفصال عن الخطية مطلباً أولياً أساسياً، مثلة مثل الاعتراف بقيامة الرب يسوع، لأن الانفصال عن الخطية هو اعتراف علني واضح وصريح يُعبر عن الإيمان الحقيقي بموت الرب من أجل خطايانا وقيامته من أجل تبريرنا، وأن معموديتنا فعالة فينا ونحن نحياها، لأن المعمودية هي موت ودفن وقيامة مع المسيح [ فدُفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة ] (رومية 6: 4)، فسرّ المعمودية كان معتبراً بوضوح لدى آباء الكنيسة الأولى بل وعلى مر العصور أنه قَسَم هذا العالم إلى عالمين: العالم الخارجي، وهو العالم الذي وضع في الشرير، عالم الخطية والموت، اي عالم الإنسان العتيق؛ والعالم الداخلي أي الكيان الجديد أو الإنسان الجديد في المسيح يسوع الذي ساد على الخطية والموت، وهذا ما يُسمى الخليقة الجديدة في المسيح: [ إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة (الإنسان القديم – العتيق بكل أعماله) قد مضت، هوذا الكل قد صار جديداً ] (2كورنثوس 5: 17)

ولكون الإنسان المسيحي صار خليقة جديدة، فصارت له أعمال حسنة من الله ليسلكها: [ لأننا نحن عمله، مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها ] (أفسس 2: 10)، لذلك لا يصح كابن للطاعة أن يعود للخطية مرة أخرى، كقول الرسول: [ كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم ] (1بطرس 1: 14)…
وهكذا صار الاختبار الإيجابي للخلاص هو السلوك بحسب وصايا المسيح الرب، وهذه هي العلامة الأولى للمسيحي على معموديته الفعالة في داخله، ولكن هذا الاختبار، لا يعني على الإطلاق أن الخطية انتهت تماماً بطريقة سحرية من العالم ولا من المؤمنين بالمسيح الرب مهما ما بلغت قوة إيمانهم بمجرد معموديتهم، أو بمجرد إيمانهم بعدما أدركوا معموديتهم، بل هم مطالبون أن ينالوا قوة من الله ويستمروا في طلبها للغلبة والنصرة الدائمة، مع الحذر والاحتراس من التجارب التي تخص إغراءات الخطية، لذلك الرب في الصلاة الربانية أعطانا أن نقول [ لا تدخلنا في تجربة، لكن نجينا من الشرير ] وفي القداس الإلهي يقول الكاهن باسم الشعب كله بقلب منسحق امام الله: [ نجنا من تذكار (أو تذكرّ) الشرّ الملبس الموت ]، لأن عدو كل خير أحياناً كثيرة يحاول أن يذكرنا بالشر ويجعلنا نتخيله فنثار ونميل نحوه إلى أن نقع فيه، لذلك دائماً ما نهرب من أن نُضيف خبرة شر جديدة لأنها لن تفارقنا إلا بعد صراع طويل من صلوات واسهار وأصوام ليتحنن الرب علينا ويعطينا أن نتطهر ونغتسل بقوة نعمته …

لذلك نحن في أمس الحاجة إلى التوبة الحقيقية والدائمة بل وإلى القبر، لكي نسلك في النور ويكون لنا شركة حقيقية مع بعضنا البعض في سر التقوى، لأن مشكلة الخطية أنها تُطفأ المحبة شيئاً فشيئاً تجاه الله وتصيبنا بالبلادة في الضمير، وكما هو مكتوب: [ ولكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين ] (متى 24: 12)، لذلك نحتاج دائماً أن نحفظ ضميرنا وقلبنا المتجدد بنعمة الله بالتوبة: [ وهذا هو الخبر الذي سمعناه منه ونخبركم به: أن الله نور وليس فيه ظلمة البتة. أن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة، نكذب ولسنا نعمل الحق. ولكن أن سلكنا في النور كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية. أن قلنا أنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا. أن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. أن قلنا أننا لم نُخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا ] (1يوحنا 1: 5 – 10)
[ يا أولادي أكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا وأن أخطأ أحد، فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط، بل لخطايا كل العالم أيضاً. وبهذا نعرف إننا قد عرفناه أن حفظنا وصاياه. من قال قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه فهو كاذب وليس الحق فيه. وأما من حفظ كلمته فحقاً في هذا قد تكملت محبة الله، بهذا نعرف أننا فيه. من قال أنه ثابت فيه، ينبغي أنه كما سلك ذاك هكذا يسلك هو أيضاً. ] (1يوحنا 2 : 1 – 6)

 

2 – المغفرة للآخرين شرط أساسي وجوهري لمغفرة الله لنا :
ومن هنا أتت التحذيرات ونداءات الرب يسوع لكل من يتبعه، بأن يمارسوا المغفرة ليس فقط لأخواتهم بل وأيضاً لأعدائهم، فبكوننا كلنا رعية مع القديسين وأهل بيت الله، وقد صرنا ملوكاً وكهنة (لا أتلكم عن الكهنوت التنظيمي في الكنيسة بوضع اليد حسب موهبة الروح، بل أتكلم بوجه عام)، فصار لنا أن نعطي المغفرة لكل أعداءنا الذي أخطئوا في حقنا، فمغفرة المسيحي لأخيه هي بمثابة إعلان عن إيمانه بمغفرة الله لخطايا العالم، وبرجائه الحي في رحمة الله المتسعة جداً، لأن دليل إني أحيا في النور هي محبة أخي وغفراني له في كل كبيرة وصغيرة: [ من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة. من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة. وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك، ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه. أكتب إليكم أيها الأولاد لأنه قد غُفرت لكم الخطايا من أجل اسمه. ] (1يوحنا 2: 9 – 12)
وبإيماننا أن الرب يسوع المسيح صار كفارة للعالم كله [ الذي قدمه الله كفارة بالإيمان بدمه لإظهار بره من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله ] (رومية 3: 25)، [ وهو كفارة لخطايانا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضاً ] (1يوحنا 2: 2)، بهذا الإيمان والرجاء تتدعم الكنيسة وتزداد اتحاداً بالرب الذي أتى ليطلب ويُخلِّص ما قد هلك، فهو يطلب الخطاة والفجار ليغيرهم ويشفيهم، ومن هُنا أتت المغفرة المتبادلة بين المسيحيين الحقيقيين لبعضهم البعض كتأكيد عملي فعال لمغفرة الله لهم. وعن هذا الطريق يُعلن المسيحيون الحقيقيين أن سلطان المغفرة قد أتى وأن سلطان الخطية والخصومة والفرقة والعداوة قد ولى، وأن المسيحيين اليوم لهم خدمة حقيقية وحيدة وهي خدمة المصالحة:
[ نفتخر أيضاً بالله بربنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المُصالحة ] (رومية 5: 11)
[ ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه بيسوع المسيح وأعطانا خدمة المُصالحة ] (2كورنثوس 5: 18)
[ أي أن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم، وواضعاً فينا كلمة المصالحة ] (2كورنثوس 5: 19)

لذلك المسيحي الحقيقي يحفظ بقلبه قبل عقله وينفذ بكل قوة فيه كلام الإنجيل القائل: [ لا يُمكن إلا أن تأتي العثرات … احترزوا لأنفسكم، وإن أخطأ إليك أخوك فوبخه، وإن تاب فاغفر له. وإن أخطأ إليك سبع مرات في اليوم ورجع إليك سبع مرات في اليوم قائلاً أنا تائب فاغفر له ] (لوقا 17: 1 – 4). ونفس القول ورد في [ متى 18: 7، 15، 21 – 22 ]؛ [ واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن لمن أخطأ إلينا ] …

 

3 – اعتراف المُخطئ وتوبته :
الحل والربط وسلطان مغفرة الخطايا - بحث روحي لاهوتي كنسي إرشادي للخبرة والحياة (الجزء الأول)لقد رأت الكنيسة الأولى في مطالبة الرب يسوع المسيح بمغفرة الخطية، أنها لا تعني التساهل أو التغاضي أو التغافل عنها، وذلك بسبب شناعتها لأنها تقتل الإنسان، إذ تفسد ضميره وتطرحه بعيداً عن الله ولا يستطيع ان ينظر وجهه فيتغير إليه فيعود لحالة الموت ويسير في طريق الهلاك الأبدي :
[ لماذا تحجب وجهك وتحسبني عدواً لك ] (أيوب 13: 24)
[ تحجب وجهك فترتاع، تنزع أرواحها فتموت وإلى ترابها تعود ] (مزمور 104: 29)
[ لأن كثيرين يسيرون ممن كنت اذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضاً باكياً وهم أعداء صليب المسيح ] (فيلبي 3: 18)
[ وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن ] (كولوسي 1: 21)
لذلك ترى الكنيسة أن استعداد غفران الخطية لابد من أن يقابله لدى المُخطئ الاعتراف بها والإقلاع عنها [ لأنها طرحت كثيرين جرحى وكل قتلاها أقوياء ] (أمثال 7: 26)، لذلك نجد أن كلمة المسيح الرب للمرأة التي أُمسكت في ذات الفعل [ أذهبي بسلام ولا تُخطئي أيضاً ] (أنظر يوحنا 5: 14، 8: 11)، مقترنة وملازمة وشديدة الالتصاق بغفران المسيح الرب للخطية: [ ولا أنا أيضاً أُدينك ]…

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [ إن التوبة تُسبب خوفاً وضيقاً للخاطئ، ولكنها ترياق صالح تُعالج فيه علل الخطايا. وهي تفديه من آثامه… أأنتم خطاة؟ لا تيأسوا، فأنا أُصرّ على أن أُقدم لكم الرجاء كدواء، وكأفضل علاج لضعفكم… لن أكف عن أن أُكرر لكم إنه إن أخطأتم لا تيأسوا. إن أخطأتم كل يوم فتوبوا كل يوم ] (العظة الثامنة عن التوبة للقديس يوحنا ذهبي الفم)

فحقيقة الغفران واضحة وهي مقدمة للجميع مجاناً بلا ثمن ولا قيد أو شرط على الإطلاق، والخلاص ليس له ثمن يُقدم من الإنسان لله ولا حتى بالتوبة نفسها، ولكن مجرد نية الإنسان للتوبة بعزم صحيح – مهما ما كان ضعيف – هو الذي يجعل غفران الخطية حقيقة واقعة على المستوى العملي في حياته، لأن غفران الله لنا ليس غفران نظري فكري، أو بكوننا نعتقد أن الله بررنا وخلصنا، فالله بررنا فعلاً وخلصنا وهذه حقائق نؤمن بها ومن يُنكرها ينكر موت الرب على الصليب ويرفض قيامته، ولكننا لا نؤمن بها كنظرية وفكرة في العقل، بل نؤمن بها على المستوى العملي والواقعي بتوبتنا التي تؤدي إلى النتيجة الحتمية إلا وهي غفران الله للخطية وقوة الغلبة والنصرة عليها بالنعمة، لأن الرسول يقول: [ فماذا نقول أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة. حاشا، نحن الذين متنا عن الخطية كيف نعيش بعد فيها. أم تجهلون أننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته. فدفنا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه موته نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطل جسد الخطية كي لا نعود نستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي مات قد تبرأ من الخطية. فأن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه. عالمين أن المسيح بعدما أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً، لا يسود عليه الموت بعد. لأن الموت الذي ماته قد ماته للخطية مرة واحدة والحياة التي يحياها فيحياها لله. كذلك أنتم أيضاً أحسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا. إذاً لا تملكن الخطية في جسدكم المائت لكي تطيعوها في شهواتها. ولا تقدموا أعضاءكم آلات إثم للخطية، بل قدموا ذواتكم لله كأحياء من الأموات وأعضاءكم آلات برّ لله. فأن الخطية لن تسودكم لأنكم لستم تحت الناموس بل تحت النعمة.
نحن عبيد للذي نطيعه، فماذا إذاً أنُخطئ لأننا لسنا تحت الناموس بل تحت النعمة، حاشا. ألستم تعلمون أن الذي تقدمون ذواتكم له عبيداً للطاعة، أنتم عبيد للذي تطيعونه، إما للخطية للموت أو للطاعة للبر. فشكراً لله أنكم كنتم عبيداً للخطية ولكنكم أطعتم من القلب صورة التعليم التي تسلمتموها. وإذ أُعتقتم من الخطية صرتم عبيداً للبر. أتكلم إنسانياً من أجل ضعف جسدكم، لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيداً للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضاءكم عبيداً للبرّ للقداسة. لأنكم لما كنتم عبيد الخطية كنتم أحراراً من البرّ. فأي ثمر كان لكم حينئذ من الأمور التي تستحون بها الآن، لأن نهاية تلك الأمور هي الموت. وأما الآن إذ أُعتقتم من الخطية وصرتم عبيداً لله فلكم ثمركم للقداسة والنهاية حياة أبدية. لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربنا ] (رومية 6: 1 – 23)

لذلك نجد أنه من الضروري إقرار الخاطئ بخطيئته، وهو عنصر أساسي وجوهري نجده كان يوجد في العهد القديم لتكميل غفران خطيئة الخاطئ الذي ينتمي إلى شعب الله، الذي ينبغي أن يكون شعب مخصص ومفرز لله بدون أن يمسه شيء غريب عن طبعه وسمه الملامح الإلهية التي خُطت فيه بناموس الله، وهذا الخاطئ المعترف قد أُختتن في جسده لتكميل عهد الختان بينه وبين يهوه إله إسرائيل، أي أنه يحمل علامة العهد، التي تؤكد انتماؤه لشعب الله المختار والمفرز له، ونفس ذات الوضع لم يتغير في العهد الجديد، وصار لازم على كل خاطئ يُريد أن ينضم للكنيسة أن يؤمن بالمسيح كمُخلِّص وغافر للخطايا، وقبول معمودية الماء والروح ليدخل في سمة العهد بخلع جسم الخطايا ولبس إنسان جديد وذلك بالدفن والقيامة مع المسيح: [ فدفنا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة ] (رومية 6: 4)، [ وبه أيضاً خُتنتم ختاناً غير مصنوع بيد، بخلع جسم خطايا البشرية بختان المسيح ] (كولوسي 2: 11)
ونسمع كلام القديس بطرس الرسول في سفر الأعمال حينما قال الناس ماذا نصنع: [ ماذا نصنع أيها الرجال الإخوة ؟ فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس ] (أعمال 2: 37و 38)، ونجد أيضاً مكتوب: [ وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مُقرين ومُخبرين بأفعالهم ] (أعمال 19: 18)، وهذا الإقرار نجده حتى بعد الإيمان عند القديس يعقوب الرسول إذ يتكلم بروح الكنيسة وسلطان الرسولية قائلاً: [ اعترفوا بعضكم لبعض بالزَّلات، وصلوا بعضكم لأجل بعض لكي تُشفوا ] (يعقوب 5: 16)، ويكمل المعنى القديس يوحنا الرسول ليبقى واضحاً كشمس النهار لكي يدخل الإنسان في قوة التطهير وتنقية القلب فعلياً إذ يقول: [ إن اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويُطهرنا من كل إثم ] (1بوحنا 1: 9).

فالخاطئ بعد لما كان بعيداً منعزلاً عن الله وشعبه المقدس، انضم لشعب الله ودخل في سر العهد الجديد وارتبط بالجماعة كلها في سر التقوى (مخافة الله) ويحيا بالإيمان العامل بالمحبة، بحيث أنه دخل في شركة النور مع كل الكنيسة، فأي شيء يمسه من نجس أو رجس من خطاياه القديمة يحتاج أن يتطهر منها ويغتسل فوراً بتقديم توبة جادة وحقيقية، لأنه يكدر نفسه وجماعة الكنيسة كلها لأنه جرح الشركة بالخطية فأحزن الروح القدس الذي يعمل في الكنيسة ويشع فيها قداسة الرب حسب الدعوة التي دعانا بها: [ كونوا قديسين كما أن أباكم هو قدوس ] [ بدون القداسة لا يُعاين أحد الرب ]، فهنا المؤمن نفسه ممكن يخسر معاينة الله وسط الكنيسة، فلا يراه فيها وينكمش على أناه ويخسر شركة المؤمنين التائبين، فيكدر الكنيسة بخطيئته التي منعت شركته مع إخوته في النور وتبادل الخبرات لكي يتآلف الكل ويتحد بالمسيح الرب رأس الجسد.

ومن هُنا أتت خدمة الأسقف والقس: [ أكرز بالكلمة، أعكف على ذلك في وقت مناسب وغير مناسب، وبخ، أنتهر، عظ، بكل أناة وتعليم ] (2تيموثاوس 4: 2)؛ [ تكلم بهذه وعظ ووبخ بكل سلطان، لا يستهن بك أحد ] (تيطس 2: 15)، وذلك للتحذير والحث والوعظ للخاطئ لكي يقلع عن خطيئته التي تقوده للموت والانعزال الحتمي عن الله في النهاية، وضعف الكنيسة وحزن أعضائها، وهذا الواجب الموضوع على الأسقف والكاهن هو جزء لا يتجزأ من واجب الرحمة والمغفرة لكل خاطئ، وهذا واجب ينبغي أن يسود وسط الكنيسة كلها من أول الأسقف لأصغر خادم بل والإخوة الأشقاء في الكنيسة الواحدة، بحيث يتشرب الكل أصول الحياة الجادة مع الله بإيمان حي وفعال بالتقوى، لأنه أن لم يوجد في الكنيسة كلها ندم وتوبة حقيقية جادة عن الخطية فلن يوجد مغفرة لأحدٌ قط.

وليس – بالطبع – في الكنيسة حدود للغفران، طالما أن قرار الغفران هو قرار الله، وسلطان المغفرة سلطان الله، ولكن مؤيد ومُثبت باختبار شركة الحياة المقدسة داخل الكنيسة، لأن الرسول يقول: [ أن سلكنا في النور كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية ] (1يوحنا 1: 7)، لأن الغفران يتم في شركة، والشركة هي شركة الجسد الواحد الذي تتأكد بوحدة الشعب بكل من فيه مع الأسقف، وشرطها أن الكل يسلك في النور ليدخل في سر شركة الكنيسة الجامعة ودم المسيح الرب يغسل الكل ويطهر الجميع !!! وبدون شركة في الجسد الواحد [ أحفظهم في أسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحداً كما نحن… وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني، ليكونوا واحداً كما إننا نحن واحد ] (يوحنا 17: 11و 22)، وأصبح الكل منقسم ومفتت وهذا ضد آخر، فلن يوجد غفران، لأن الانقسام يدل على العداوة والخصومة، وهذا يعتبر سلوك في الظلمة [ أن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق ] (1يوحنا 1: 6)، [ من قال أنه في النور وهو يبغض أخاه فهو إلى الآن في الظلمة ] (1يوحنا 2: 9).

وعموماً مشكلة الخطية أنها تعمل فرقة في كنيسة الله، لأن الخادم أو الخادمة غير التائبين سيبحثون عن الكرامة ويظهرون ذواتهم ويطلبون مجد الناس، وتحدث كل خصومة وتفريق، وأنا تابع فلان وأنا تابع علان [ لأنه متى قال واحد أنا لبولس وآخر انا لأبلوس أفلستم جسديين ] (1كورنثوس 3: 4)، وتصبح كل مجموعة ضد الأخرى وخادم في عداوة مع خادم، ومخدوم متسلط على آخر لأنه يتبع الخادم فلان المشهور، وهكذا تنقسم الكنيسة وتُقلب لأحزاب مضادة لبعضها البعض والكل في النهاية يخسر الله ويخسر إيمانه [ كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه ] (يوحنا 5: 44)، ويكدر الكنيسة كلها وبسببه يجدف على الاسم الحسن في النهاية !!! وكل هذا لأنه لا يوجد توبة حقيقية التي تولد بطبعها الانسحاق والاتضاع والمحبة الحقيقية !!! لذلك كانت الكنيسة تحرص على أن الذي يشترك فيها يكون تائب أولاً، لأن المدخل للشركة في كنيسة الله هو التوبة، وبدونها لا يستقيم اجتماع ولا خدمة مهما ما مان نوعها ومهما ما كان هذا الخادم نشيط وزكي وباحث قوي وعلى دراية تامة بكل قوانين الكنيسة وتقليدها وله كل العلم، ولكن في النهاية غير تائب، فهو حتماً هالك لأنه لم يتب وسيجر الكنيسة كلها معه لمزالق خطرة للغاية !!!

+ نوعان من الاعتراف يكملوا بعضهما البعض:
هناك نوعان متلازمان من الاعتراف، الأول هو لحلول نعمة الله وغسيل القلب بالنقاوة، وأساسه هو المخدع، أي سراً بين الإنسان والله، لأن بدون المخدع والاعتراف أولاً امام الله لا تستقيم توبة قط ولا تصلح إطلاقاً، والثاني أمام الأب الكاهن لشركة الكنيسة وتتميم الشفاء بالتوجيه الروحي السليم وهو يأتي بالإرشاد الذي يكمله المرشد الروحي، وفي ذلك يقول القديس يوحنا ذهبي الفم :
[ لماذا تخجل من الاعتراف بخطاياك؟ هل ستخبر بها إنساناً يُعيَّرك بها؟ هل ستعترف بها أمام خادم مثلك قد يُخبر الآخرين بأفعالك؟ أنت ستعترف للرب المُدبِّر، صديق الإنسان، الطبيب الذي ستكشف له جراحاتك… يقول الرب أخبرني أنا وحدي بخطاياك سراً حتى أُشفيك من جراحاتك، وأُخلِّصك من أمراضك ]
ويقول القديس غريغوريوس النيسي (335 – 395م) مخاطباً التائبين قائلاً: [ اسكبوا قُدامي دموعاً حارة وغزيرة، وأنا أعمل معكم هذا العمل بعينه، خذوا خادم الكنيسة شريكاً أميناً لكم في حزنكم، وأباً روحياً… فينبغي إذاً أن تعتبروا الذي ولدكم بالله أعلى من الذين ولدوكم بالجسد. فاكشفوا له أسراركم. اكشفوا له أسرار نفوسكم كما يكشف المريض جراحه للطبيب فتنالوا شفاء ]
عموماً العمل الأساسي للمرشد الروحي أن يوجه نظر التائب إلى أن يعرف نفسه في جوهرها الأصلي لكي يحيا وفق التوبة الصحيحة ليحبها وتصير منهج حياته كلها، لذلك لابد من ان يلفت نظر التائب لعمل الروح القدس الذي وحده العامل في داخل النفس، لأن المرشد يوجه ويُعلم الطريق ولكنه لا يطهر النفس من الدخل بل الروح القدس وحده…

ولننتبه لمراحل التوبة الصحيحة التي أعطاها لنا أبينا القديس الأنبا أنطونيوس الكبير قائلاً
[ أقيموا جسدكم الذي أنتم لابسوه، واجعلوه مذبحاً، وضعوا فوقه جميع أفكاركم، واتركوا هناك كل مشورة شريرة قُدام الرب، وارفعوا أيدي قلوبكم إليه… وصلوا إلى الله لكي ينعم عليكم بإتيان ناره العظيمة غير المرئية من السماء لتحرق المذبح وكل ما عليه، فتخاف كهنة البعل التي هي أعمال العدو المُضاد، وتهرب من وجهكم كما من وجه إيليا النبي. وحينئذ تنظرون سحابة قدر كف إنسان فوق البحر، تؤتيكم المطر الروحاني، الذي هو عزاء الروح القدس ]
ويقول ايضاً: [ بعد ذلك يبتدئ الروح (القدس) مرشده يفتح عيني نفسه ويمنحها التوبة حتى تتطهر، والعقل أيضاً يبدأ يُميز بين النفس والجسد، عندما يبتدئ أن يتعلم من الروح كيف يطهر كليهما بالتوبة ]
ويعلن في النهاية احتياج الإنسان الحقيقي إذ يقول: [ يحتاج الإنسان العاقل أن يعرف نفسه… وأن يعرف أن كل خطية وإثم هي غريبة عن طبيعة جوهره العقلي ] (والعقل المقصود به عند الآباء هو باليونانية (نوس) أي العقل الذي يُدرك الروحيات ويُسمى “القلب” وهو غير العقل البشري brain)
ويقول أيضاً عن الروح القدس: [ … والروح يُعلم العقل كيف يُطَّبب كل جراحات النفس، وينزع عنها الأوجاع، واحدة بعد الأخرى، تلك التي امتزجت بأعضاء الجسد. والأوجاع الأخرى الخارجة عن الجسد، التي امتزجت بالإرادة ]، وهكذا يوضح لنا أن خطايا أو أوجاع أو جراحات الجسد تكون إما بسبب أوجاع النفس وجراحاتها التي تنعكس بدورها على الجسد، لأن الجس يتأثر بنفسية الإنسان، وطبيعة الخطية موت ينعكس على الجسد نفه في النهاية وتظهر في صور نفسية شتى تظهر في الإنسان عموماً مثل (الضيق الشديد، الكآبة، الحزن الدائم، الشعور بالندم القاتل، وينعكس هذا على الجسد نفسه في النهابة ببعض الأمراض وخلافه). وإما بسبب ضعف الإرادة التي ضعفت بسبب تكرار الخطية والانغماس فيها، فلا يستطيع المقاومة بعد ذلك أمام اصغر الخطايا لأن الإرادة ضُربت ولم يعد في مقدورها أن تصمد أمام أقل الخطايا تفاهة…

 

4 – الحِل من الخطية موهبة جديدة معطاه للبشرية في المسيح :
هذا الحِل ظاهر في إقامة الرب يسوع المسيح القيامة والحياة للعازر الميت الذي قال له لعازر هلما خارجاً: [ فخرج الميت ويداه ورجلاه مربوطات بأقمطة ووجهه ملفوف بمنديل، فقال لهم يسوع حلوه ودعوه يذهب ] (يوحنا 11: 44)، فالمسيح الرب هو الذي يُقيم النفس أولاً قبل أن تُزال عنها كل الأقمطة الملفوفة فيها، والكنيسة تفحص النفس في التوبة وتراها هل هي قائمة بقوة الله، أم لازالت ميته في شهواتها غير تائبة، فالكنيسة تؤكد على قول الرب وتختم عليه لتدخل هذه النفس في شركة الجسد الواحد، وعموماً هذا الغفران وإقامة النفس من قبر الشهوة الذي فيه أنتنت وفاحت رائحة الموت منها وانفكاكها من رباطات أكفان الشر، والتي تُمارسه الكنيسة للخطاة التائبين أي الذين أقامهم الرب من الموت، هو الإمكانية الجديدة المُعطاة للخليقة الجديدة في المسيح في العهد الجديد، بخلاف ما كان سائداً في العهد القديم، لأن اليهود لم يتعودوا أن يروا إنساناً يغفر الخطايا، لكن [ ابن الإنسان أُعطي سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا ] (متى9: 6)، وهو الذي أعطى الكنيسة سلطاناً مثل هذا (متى 9: 8)، [ الحق الحق أقول لكم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلونه على الأرض يكون محلولاً في السماء ] (متى 18: 18)، وهي بالطبع مربوطة ربطاً لما قاله الرب للتلاميذ الرسل بعد قيامته، إذ نفخ فيهم وقال لهم: [ اقبلوا الروح القدس، من غفرتم خطاياه تُغفر له، ومَن أمسكتم خطاياه أُمسكت ] (يوحنا 20: 22و 23)، فيأتي الغفران هنا مربوطاً بقبول الروح القدس، لأن ما يحفظ الكنيسة هو الروح القدس وصوته الحي فيها ومشورته في كل شيء وعلى الأكثر في قبولها للتائبين ومن ينضم إليها، ورفضها للمخالفين الذين في عند يرفضون التوبة أو الذين يهرطقون عن قصد ووعي ليقسموا الكنيسة أو يفسدوا الإيمان فيها فتهبط الهمم وينزل الناس لمستوى الأرضيات والتراب بسبب ضلال التعليم الذي يُأثر في حياة الناس ليضلوا الطريق ويسيروا في طريق الموت الذي حذرنا منه الرب …

فكل ما تفعله الكنيسة – في كل كبيرة وصغيرة – لا بد من أن يتم بمشورة الروح القدس: [ لأنه قد رأى الروح القدس ونحن أن لا نضع عليكم ثقلاً أكثر غير هذه الأشياء الواجبة ] (أعمال 15: 28)، وعند غياب الروح القدس كل شيء يُختلط على الناس وتضطرب الكنيسة كلها ولا تعرف يمينها من شمالها ويتصرف كل واحد كما يشاء وحسب فكره ورأيه بلا ضابط أو رابط، حتى أنه ممكن أن يُغير في التسليم الرسولي والآبائي كما يشاء ويقلب الحق باطل والباطل حق، ويسير الناس وفق هواهم ليفعلوا ما يريدون ويقولوا أن هذا هو الحق والكل يصدق: [ ولأجل هذا سيرسل إليهم الله عمل الضلال حتى يصدقوا الكذب ] (2تسالونيكي 2: 11) [ نحن من الله، فمن يعرف الله يسمع لنا، ومن ليس من الله لا يسمع لنا، من هذا نعرف روح الحق وروح الضلال ] (1يوحنا 4: 6).

ولنُلاحظ شيء مهم للغاية في قول المسيح الرب عن الاجتماع باسمه، لأن اجتماع الكنيسة شيء غير عادي أو بالشكل البسيط الذي نراه مجرد اجتماع كنسي، لأن الرب قال بنفسه وبشخصه: [ أن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات، لأنه حيثما اجتمع أثنان أو ثلاثة باسمي فهُناك أكون في وسطهم ] (متى 18: 19و 20)، فباسمي هنا تأتي إعلان للحضرة الإلهية [ أكون في وسطهم ]، لذلك مكتوب: [ أُخبر باسمك إخوتي، في وسط الجماعة أُسبحك ] (مزمور 22: 22)، [ قائلاً أُخبر باسمك إخوتي وفي وسط الكنيسة أُسبحك ] (عبرانيين 2: 12)، فأي اتفاق بين الإخوة الذين في الجسد الواحد اي الكنيسة حينما يجتمعون بهذا الإيمان الحي بالروح يكون لهما كل شيء باسم الرب الحاضر معهم حسب وعده، لذلك اجتماع الكنيسة لم ولن يكون بالشيء البسيط العادي، وكلنا نحتاجه، لأن حتى حل الغفران الذي يُقدم فهو بفم الكنيسة الواحدة المجتمعة، فالكاهن منفرد لا يعطي من ذاته الحل، بل باسم الثالوث وباسم الكنيسة كلها التي فوضته من قِبَل الأسقف أن يقبل المعترف ويقدم له الحِل بإفراز وتمييز باسم الجماعة كلها…
ولنلاحظ أن سلطان الحِل لا يأتي اعتباطاً أو بشكل عشوائي بل الرب أعطى له شرط فلنصغي إليه بتدقيق لأنه يوضح كل ما قرأنا منذ بداية الموضوع إلى الآن، إذ يقول : [ ومتى وقفتم تصلون فاغفروا، إن كان لكم على أحد شيء، لكي يغفر لكم أيضاً ابوكم الذي في السموات زلاتكم. وإن لم تغفروا لا يغفر أبوكم الذي في السموات زلاتكم ] (مرقس 11: 25و 26)، وهذا ينقلنا للعنوان التالي

 

5 – الكنيسة تمارس هذا السرّ في حضرة المسيح الرب :
الحل والربط وسلطان مغفرة الخطايا - بحث روحي لاهوتي كنسي إرشادي للخبرة والحياة (الجزء الأول)لا نستطيع أن نُجرد سلطان المغفرة ونعزله عن الكنيسة وكأنه سلطان مستقل مُعطى لفرادى، لأن هذا السُلطان اُعطى للكنيسة كجماعة مجتمعه في شركة مع الله بحضور المسيح الرب بشخصه وسط الكنيسة [ فأجاب يسوع وقال له: طوبى لك يا سمعان بن يونا أن لحماً ودماً لم يُعلن لك لكن أبي الذي في السماوات …. لأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة بإسمي فهناك أكون في وسطهم ] (متى 16: 17؛ 18: 20)، وهذه الكنيسة المُعلن فيها مجد الله في المسيح يسوع هي التي تتخذ قرارها بالروح القدس قائدها بحسب أمر الله لها بهذا السلطان، الذي قَبِلَ توبة التائب حسب وعده ونعمته المجانية، بالحِل للخاطئ التائب ليستطيع أن يعود ليُمارس حياة الشركة في وسطها من خلال التقدم لسرّ الإفخارستيا، والله في السماء يؤيد ويُعطي الشرعية للقرار بسبب هذا الإجماع والاتفاق بين الجماعة المقدسة، وهذا ما نراه في السياق الذي أعطى فيه الرب للرسل سلطان الحِل والربط الذي لا يُعطى لفرد منفرد وحده بمعزل عن الجماعة المقدسة ككل أي الكنيسة، إذ يقول كما راينا سابقاً: [ أن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات، لأنه حيثما اجتمع أثنان أو ثلاثة باسمي فهُناك أكون في وسطهم ] (متى 18: 19و 20).
فحكم الكنيسة بالحِل والغفران هو طاعة أمر الله الحاضر بروحه وسط الجماعة العظيمة المقدسة المجتمعة والمتحدة بالروح القدس، أي المتحدة بمشيئة الآب، وهذا ما نجده واضحاً في صلوات التحليل في الكنيسة عموماً، والصلاة على المعترف تكون دائماً باسم المسيح الرب لأنه مات من أجل خطايانا وهو الذي يحلنا ويفكنا منها بشخصه، لذلك لا يضع الكاهن يده على راس المعترف، بل يضع الصليب على رأسه قائلاً: [ … وعبدك الذي أحنى رأسه تحت يدك، أرفعه في السيرة، زينه بالفضائل… الخ ]

عموماً في الكتاب الثامن من كتب المراسيم الرسولية نجد صورة مبدعة لممارسة اعتراف التائبين بخطاياهم أمام الجماعة المقدسة أي الكنيسة في النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي، وصلاة الكنيسة كلها من أجلهم، ثم صلاة الأسقف العامة عنهم، والتي هي بمثابة صلاة التحليل لهم، وهي ترينا ممارسة هذا السر العظيم، سر التوبة وسلطان الحلّ في وحدة اجتماع الكنيسة معاً، فنقرأ في كتاب المراسيم الرسولية [ الكتاب الثامن: 9: 1 – 11 ] ما يلي:
[ 1 – وبعد هذا يقول (الشماس):
2 – صلوا أيها الذين هم في التوبة، ولنطلب جميعاً بحرارة من الله الرحيم، من أجل إخوتنا الذين هم في التوبة، لكي يُظهر لهم طريق التوبة، ويقبل رجوعهم، واعترافهم، ويسحق الشيطان تحت أرجلهم سريعاً، ويُحررهم من فخ إبليس، ومكيدة الشياطين، وينزع منهم كل كلمة بطالة، وكل عمل في غير موضعه، وفكر ردئ,
3 – يصفح عن كل زلاتهم التي فعلوها، سواء بإرادة أو بغير إرادة. ويمحو الصك الذي عليهم، ويسجلهم في سفر الحياة. ويُطهرهم من كل دنس الجسد والروح، ويوحدهم مع قطيعه المقدس (الكنيسة) بعد رجوعهم.
4 – لأنه يعرف جُبلتنا، فمن يفتخر بنقاوة قلبه؟ أو من يتجاسر فيقول إنه طاهر من الخطية؟ لأننا جميعاً تحت التأديبات.
5 – فلنتوسل من أجلهم بأكثر حرارة، لأنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب. لكي يرجعوا من كل عمل بطال، ويلتصقوا بكل عمل صالح. لكي يتقبَّل الله محب البشر طلباتهم سريعاً وبرضى، ويردهم إلى رتبتهم الأولى، ويمنحهم فرح الخلاص. ويثبتهم بروح مدبَّر، فلا تزل خطواتهم بعد. بل يصيرون مستحقين أن يكونوا شركاء مقدساته الطاهرة، وشركاء الأسرار الإلهية ليظهروا مستحقين التبني، ونوال الحياة الأبدية.
6 – لنقل بحرارة من أجلهم: يا رب ارحم، خلصهم يا الله وأقمهم برحمتك. قفوا واحنوا رؤوسكم لله بمسيحه لتتباركوا.
7 – عندئذٍ يُصلي الأسقف بهذه الكلمات:
8 – يا الله الأبدي، ضابط الكل، رب الكل، خالق الكائنات ومدبرها، الذي أظهر الإنسان بالمسيح زينة العالم، وأعطيته ناموساً طبيعياً، وناموساً مكتوباً، ليحيا حسب الناموس كخليقة عاقلة. وعندما أخطأ أعطيته صلاحك عربوناً للتوبة. أطلع على أولئك الذين احنوا عنق نفوسهم وأجسادهم، لأنك لا تشاء موت الخاطئ بل توبته، لكي يرجع عن طريقه الرديء ويحيا.
9 – يا من قبلت توبة أهل نينوى، ويا من تُريد أن جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون. يا من قبلت بأحشاء أبوية الابن الذي دمَّرَ ثروته في حياة الخلاعة من أجل توبته. أنت الآن أيضاً، اقبل توبة طالبيك. لأنه ليس أحد بلا خطية أمامك. لأنك إن كنت للآثام راصداً يا رب، يا رب من يثبت. لأن من عندك المغفرة.
10 – رُدَّهم لكنيستك المقدسة، ولرتبتهم وكرامتهم الأولتين بالمسيح إلهنا ومُخلصنا. الذي به لك المجد والسجود في الروح القدس إلى الآباد آمين.
11 – يقول الشماس: أمضوا أيها التائبون. ]

__________ يتبــــــــــع __________

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى