بحث عن الإيمان في أصول معناه ومفهومه الصحيح في الكتاب المقدس

سرّ الإيمان الحي -الجزء السابع- بحث عن الإيمان ومفهومه الصحيح، (2) الأمانة πιστός

91322084الإيمان – حياة وخبرة (الجزء السادس – الجزء الرابع من شرح الموضوع: الأمانة)
المعنى الثاني للإيمان في الكتاب المقدس: الأمانة πιστός
אֶמֶת – חֶסֶד – πίστις – πιστεύω – πιστός – πιστόω

 

مقدمــــــــــــة:
أن كلمة [ إيمان وأمانة ]، هما كلمتان كثيرتان الورود في الكتاب المقدس، فهما ترتبطان بالعلاقة بين الله والإنسان على مستوى خاص وشخصي للغاية، وتدلان على أمرين متلازمين، لأن إيمان الإنسان يتجاوب في الأساس مع أمانة الله ويستند إليها بل ويُبنى عليها، كما أن من جانب الإنسان يجب أن يؤدي هذا إلى أمانته لله، وهذا كرد على أمانة الله مع المفارقة العظمى ما بين أمانة الله المطلقة وأمانة الإنسان التي تتوقف على نموه الروحي وانفتاح إدراكه على الله الذي يُعلن له ذاته سراً في قلبه ووجدانه الداخلي.

ولكي نفهم المعنى بدقة علينا أن نعود لأصل الكلمة ومعناها كما قصدها الكتاب المقدس؛ وتأتي في اللغة العبرية بعدة معاني كالتالي:
אָמן

sincere, loyal, faithful, honest, devoted, true, honest, fair, level, straightforward, reasonable, loyal, firm, staunch, truthful, constant, true, characteristic, correct, right, valid, proper, to be true or certain

صادق، نزيه، ولاء (عنده ولاء)، حريص على أداء الواجب، أمين، صحيح، سليم، طبق الأصل، أو مطابق للأصل، ثابت، مُميز، مُخلص، وفي بالعهد، يقيني، لا ريب فيه، مؤكد

כּוּן

Direct, explicit, straight, stable, perfect, settled, airtight

مستقيم، ثابت، راسخ، قوي، أمين للأصل، صريح، تام، مضبوط، منضبط، كامل، مستقر، مُحكم

في اليونانية تأتي الكلمة بهذه المعاني:

πίστιςπιστεύωπιστόςπιστόωσεμνότης
True, faithful, sure, trustworthy, trustful

إيمان، أمانة، يؤمن, يُأتمن، يُصدق، تصديق، صادق، يُعتمد عليه، موثوق فيه، يقتنع؛ إخلاص، استقامة وتواضع، صراحة ورزانة، وتأتي الكلمة اليوناني – πιστός – في المبني للمجهول: مُعتمد، جدير بالثقة، وفي المبني للمعلوم بمعنى: موثوقية، موضع ثقة أو تصديق.

عموماً أهم معنى في اللغة العبرية والذي هو أساس المعنى هو: אֶמֶת
وهي تعني الأمانة والثبات في العلاقة بين الأشخاص، وترتكز على الحق والصدق والصراحة، وقد ترجمتها السبعينية بلفظة άλήθεια التي تعني الغير مخفي، أو بمعنى أدق [الحق]، كما سوف نرى في معنى الحق فيما بعد، وهي في اليونانية تأتي بالمعنى الفلسفي للكلمة.
فبينما تُركز اليونانية على الناحية الفكرية والعقلية، نجد أن العبرية تُشير إلى ناحية الشركة، إذ أنها ترتكز على العلاقات بين الأشخاص. وتلك العلاقات هي علاقة حق وأمانة.
وعلى ضوء هذا المعنى نجد أن العهد القديم يُظهر علاقة الله بالإنسان من الجهة الشخصية، اي العلاقة الخاصة بين الله حسب مشيئته وبين الإنسان، وهي علاقة عهد أساسه أمانة لا تتغير أو تتبدل قط:
[ أعلم أن الرب (يهوه) إلهك (أنت) هو الله الإله الأمين הַנֶּאֱמָן (مُخلص إخلاص)، يحفظ العهد والرحمة لمُحبيه وحافظي وصاياه إلى ألف جيل ] (تثنية 7: 9)
[ ومر الرب أمامه ونادى: الرب (الرب) إلهٌ رحيم ورؤوف (حنون)، بطيء الغضب (طويل الأناة) وكثير الإحسان (اللطف) والوفاء (וֶאֱמֶת) وحافظ (صائن) الإحسان (الرحمة) إلى ألوف (الأجيال)، غافر (ويغفر) الإثم والمعصية والخطية ] (خروج 34: 6و 7)
والأمانة التي تصدر من الله لا تأتي إلا من طابع شخصيته، لأن الأمانة تُلازم محبته الأبوية إزاء شعب العهد الذي قطعه معهم: [ لأني أنا الرب محب العدل مبغض المختلس بالظلم، وأجعل أجرتهم أمينة وأقطع لهم عهداً أبدياً ] (إشعياء 61: 8)
[ ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهداً جديداً ] (إرميا 31: 31)
[ وأقطع لهم عهداً أبدياً إني لا أرجع عنهم لأُحسن إليهم، واجعل مخافتي في قلوبهم فلا يحيدون عني ] (إرميا 32: 40)
[ بل هذا هو العهد الذي أقطعه (أعهُده) مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب، أجعل شريعتي (نواميسي) في داخلهم (أذهانهم) وأكتبها على قلوبهم و(أنا) أكون لهم إلهاً (ومن هُنا نفهم أنه يكون لنا أباً وهذا واضح في كلام ربنا يسوع الذي احتار البعض في فهمه فهماً صحيحاً: اذهبي إلى إخوتي (من جهة الجسد) وقولي لهم إني أصعد إلى أبي (بالطبيعة) وأبيكم (بالتبني بسبب تجسدي واتحادي بطبعكم) وإلهي (من جهة المصدر لأنه خارج من عند الآب) وإلهكم (من حيث أنكم صرتم فيَّ) (يوحنا 20: 17)) وهم يكونون لي شعباً ] (إرميا 31: 33؛ عبرانيين 8: 10)

فأمانة الله مربوطة ربطاً بمحبته الأبوية إزاء شعبه الخاص، الذي قطع عهده معه، والكلمة التي تُعبر عن ذلك في العبرية هي: חֶסֶד
ومعناها: الصلاح، الرأفة، النعمة، وتتضمن دوماً معنى الأمانة في محبة الله الصادقة لشعبه. لذلك ترتبط ارتباط أساسي ورئيسي بالعهد، كما يقول إشعياء:
[ إن الجبال تزول والتلال تتزعزع، أما رأفتي (חֶסֶד – نعمتي ولطفي) فلا تزول عنك، وعهد سلامي لا يتزعزع، قال راحمك الرب ] (إشعياء 54: 10)
[ إني أُعاهدكم عهداً أبدياً على مراحم (חֶסֶד – نعمة وإحسان) داود الأمينة ] (إشعياء 55: 3؛ 54: 8؛ أعمال 13: 34)
وهذه الأمانة عينها كما قدمها الله يُطالب بها الإنسان، وهذا ظاهر في كلام النبي هوشع: [ ليس في الأرض حق ولا رحمة [חֶסֶד] ولا معرفة الله ] (هوشع 4: 1)، [ إني أُريد رحمة (חֶסֶד) لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من المحرقات ] (هوشع 6: 6)، ولنُلاحظ شدة الربط بين معرفة الله والحق والرحمة، اللذان هما الوجه التطبيقي لمعرفة الله الحق والرحمة، وكم هو ثابت فيهما ويشعان منه، ليتلقفهما الإنسان ويرد عليهما كرد فعل في عملهما في قلبه ومدى تأثر وجدانه بهما.

عموماً، تُشير الصفتان [אֶמֶת و חֶסֶד] إلى أن العهد هو في نفس الوقت هبه مجانية (نعمة) ورابطة ثابتة راسخة قوية ممتدة من جيل إلى جيل: [ إلى دورٍ فدورٍ أمانتك ] (مزمور 119: 9)، وعلى الإنسان أن يتجاوب مع هذان الموقفان الذي يتلخص فيهما سُبل الله: [ كل سُبل الرب رحمة وحق لحافظي عهده وشهاداته ] (مزمور 25: 10)، الذي ينبغي أن تتطابق حياته كلها عليهما. فالتقوى البنوية التي هو مَدين بها إزاء الله، سوف يظهر صدقها بالأمانة في المحافظة على تعاليم العهد.

ويقول القديس كيرلس الأورشليمي: [ اكتسب الإيمان الذي تتلقاه بالتعليم والكرازة، وحافظ عليه، هذا الإيمان الذي تستودعه إياك الكنيسة الآن، الإيمان الذي يُدعمه كل الكتاب المقدس..
أحفظوها (التعاليم) بتدين خوفاً من أن يُنتزع العدو بعضها، أو يُضعف من قوتها، أو أن يشوه الهرطوقي شيئاً مما سُلِّمَ إليكم.
الإيمان هو إيداع الفضة في مصرف (لوقا 19: 23) وهذا ما فعلناه الآن (بتسليم الإيمان). سيُحاسبكم الله عن الوديعة التي عُهِدَ بها إليكم على حد قول الرسول: أوصيك في حضرة الله الذي يُحيي كل شيء (1تيموثاوس 5: 21)، “وفي حضرة المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة بمحضر بيلاطس البُنطي أن تحفظ هذه الوصية بريئة من العيب واللوم إلى أن يظهر ربنا يسوع المسيح (1تيموثاوس 6: 13 – 14 ] (عن عظات القديس كيرلس الأورشليمي)

عموماً نستطيع أن نقول عن حق، أنه على مدى تاريخ الخلاص المُعلن في الكتاب المقدس والذي استمر وامتد من جيل بعد جيل، تظهر أمانة الله ثابتة دون تغيير تجاه خيانة الإنسان المتواصلة، الظاهرة في ارتداده الدائم عن الله ورجوعة لحياة عديمة الفائدة، والتي تظهر في سفر القضاة الذي يعلن خيانة الإنسان صراحة في القول المتكرر [ وعاد بنو إسرائيل ]:
[ وتركوا الرب إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر وساروا وراء آلهة أُخرى من آلهة الشعوب الذين حولهم وسجدوا لها وأغاظوا الرب ] (قضاة 2: 12)
[ وعند موت القاضي (كانوا يفعلون هذا بشكل متكرر عند موت كل قاضي يقضي باسم الرب ويرجعهم عن طرقهم الشريرة) كانوا يرجعون ويفسدون أكثر من آبائهم بالذهاب وراء آلهة أُخرى ليعبدوها ويسجدوا لها، لم يكفوا عن أفعالهم وطريقهم القاسية ] (قضاة 2: 19)
[ فعمل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب ونسوا الرب إلههم وعبدوا البعليم والسواري ] (قضاة 3: 7)
[ وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب، فشدد الرب عجلون ملك موآب على إسرائيل لأنهم عملوا الشر في عيني الرب ] (قضاة 3: 12)
[ وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب بعد موت أهود ] (قضاة 4: 1)
[ وعاد بنو إسرائيل يعملون الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم والعشتاروث وآلهة آرام وآلهة صيدون وآلهة موآب وآلهة بني عمون وآلهة الفلسطينيين وتركوا الرب ولم يعبدوه ] (قضاة 10: 6)
ورغم هذه السلسلة المتكررة والمتزايدة في كل مرة، يبقى الله أميناً يؤدبهم، لأجل الرحمة والعودة للتوبة واستقامة الحياة، فأمانة الله ظلت باقية وهي التي حفظ لنا أُناس قديسين يشهدون لله الحي ويتمم من خلاله مشيئته المقدسة لإعلان عهد خلاصه الأبدي، فأمانة الله تمتد وتستمر إلى كل الأجيال:
[ واكتب إلى ملاك كنيسة اللاودكين هذا يقوله الآمين (άμήν)، الشاهد الأمين (πιστός) الصادق (άληθινός) بدء خليقة الله ] (رؤيا 3: 14)
فهو يمنح النعمة ويفيض بها من شخصه وذاته: [ والكلمة صار جسداً وحل بيننا (فينا) ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً [άλήθεια] ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا. نعمة فوق نعمة ] (يوحنا 1: 14و 15)، ومن فيض هذه النعمة التي من مسيح الحياة، يصير من يتلقفها أهلاً أن يستحق إكليل الحياة إذا ما اقتدى بأمانة الله الظاهرة في خلاصه والممنوحة في المسيح يسوع، وصار لها مخلصاً حتى الموت [ كن أميناً (πιστός – Faithful) إلى الموت فسأُعطيك إكليل الحياة ] (رؤيا 2: 10)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى