بحث عن الإيمان في أصول معناه ومفهومه الصحيح في الكتاب المقدس

سرّ الإيمان الحي -الجزء السادس- بحث عن الإيمان في أصول معناه ومفهومه الصحيح في الكتاب المقدس، الجزء الأخير من شرح المعنى الأول: Παρρησίαν الثقة تابع (2) عدو الصلاة، (3) ثقة وغلبة العالم

91322084

الإيمان – حياة وخبرة (الجزء الخامس – الجزء الأخير من شرح المعنى الأول)
تابع شرح معاني الكلمة – المعنى الأول: الثقة Παρρησίαν
تـــــابع (2) الثقـــــــة والصـــــــلاة المتواضعـــــــــــة
(أ) عــــــــدو الصـــــلاة الأول: الشـــــــــــــــــــــــــــك
(ب) علامات فاعلية الإيمان الحي والتخلص من الشك
(3) ثقة ويقين بفرح وغلبة العالم
(4) ختام المعنى الأول [ الثقة ]

أولاً: تابع (2) الثقة والصلاة المتواضعة

(أ) عدو الصـــــلاة الأول هو الشـــــــك :

فالشك تأتي بلفظتين لفظة [ άπιστἱαapistia ] تعني عدم الثقة وعدم الجدارة، وعدم التصديق؛ ولفظة άπιστέω ) apisteo ) = سيء الظن، لا يُصدق، عنيد، وباختصار يأتي المعنى العالم للشك بمعنى لا يؤتمن أو لا يُعتمد عليه، والشك في الكتاب المقدس عموماً يعني كل ما هو ضد اليقين، أو ما هو ناتج من الخوف وزعزعة النفس في مواقفها مع الله تحت أي سبب ما…
أما عموماً كلمة الشك في القاموس الإنجليزي يأتي كالتالي:

doubt ( Type: noun – Domain: feelings & emotions ) : uncertainty of mind or of feelings
اِرْتِيَاب – شَكّ


doubt ( Type: verb – Domain: feelings & emotions ) : to think that something is not true; to not trust or have confidence in someone
شَكَّ


doubt ( Type: Verb – Domain: General ) :
شَكّ في


doubt ( Type: Verb – Domain: General ) :
اِرْتابَ في , اِشْتَبَهَ في أو بِـ أو في أمْرِه , اِمْتَرَى في , وَقَفَ في المَسْألَة


doubt ( Type: – Domain: ) :
دَخْل , رَيْب , شَكّ , شُبْهَة , ظَنّ , مُرْيَة , مِرَاء , مِرْيَة


عموماً قد ينصب الشك على جميع أنواع المدركات الحسية فيكون إما شكاً فلسفياً عقلانياً، وإما يكون شكاً نفسانياً ووجدانياً مرضياً، إما أن يكون شكاً اجتماعياً في الآخرين بسبب خبرات سابقة، أو يكون عدم أمان وزعزعة الثقة في آخر، تحت يا إما سبب وهمي مرضي، أو بسبب تعامل ما معهم أدى لهذا الشك بسبب ظروف خاصة، أو عدم ثقة في النفس أو حالة أرتياب في الآخر تؤدي إلى زعزعة الثقة فيه، هذا هو المعنى العام بالنسبة للشك.

____________________

عموماً، عادة ما يتراءى لنا أن الشك هو درجة بسيطة من درجات الخوف، إلا أن العكس هو الصحيح، لأن الخوف هو مظهر من مظاهر عجز المعرفة. أما الشك فهو خطية موجهة ضد الله مباشرة، لأنه تعبير واضح عن عدم الثقة الكاملة في الله، فهو عدم تصديق وعود الله ! [ وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى ] (عبرانيين 11 : 1)

فالشك عادة بل في الأساس هو الذي يولد الخوف. لأن الشك هو ابتداء ضعف الثقة بالله، وأما الخوف فهو الابتعاد عن الله، فبطرس الرسول لما رأى الريح شديدة قدَّر بمعرفته وحساباته الشخصية أنه لا يستطيع أن يُكمل المسير فخاف وابتدأ يغرق.

والسرّ الرئيسي المباشر في عجز إيمان القديس بطرس هو أنه شك في أمر الرب وهذا ما كشفه له السيد الرب بوضوح شديد ومباشر:[ يا سيد إن كنت أنت هو فمُرني أن آتي إليك على الماء. فقال: تعالَ. فنزل بطرس من السفينة ومشى على الماء ليأتي إلى يسوع، ولما رأى الريح شديدة خاف، وإذ ابتدأ يغرق صرخ قائلاً: يا رب نجني. ففي الحال مد يسوع يده وأمسك به وقال لهُ: يا قليل الإيمان لماذا شككت ؟ ] (أنظر مت14: 28 – 31)
ولذلك نجد أن القديس يعقوب الرسول يوضح أن أي شك أو ارتياب يعتري سؤالنا وطلبتنا من الله، فإنه يكون سبباً رئيسياً لحرماننا من نوال أي ثمرة لجاهدنا في حياتنا الروحية أو حتى استجابة صلواتنا، أو إنقاذنا من حرب عدو الخير ونصرتنا الحقيقية على الشر وفساد هذا الدهر [ ولكن ليطلب غير مرتاب البتَّة، لأن المرتاب يُشبه موجاً من البحر تُخبطه الريح وتدفعهُ، فلا يظن ذلك الإنسان أنه ينال شيئاً من عند الرب ] (يعقوب1: 6 و7)


وهذا هو سر عدم استجابة صلواتنا وقت المحن والمشقات وضيقة عدو الخير وعدم النصرة باسم الرب وقوته، لأننا نرتاب في عطية الله وليس لنا ثقة في شخصه محب البشر، والسؤال الذي يتبادر في الذهن في تلك اللحظة، هل من المعقول الله يغفر لي (أن كانت هناك خطية)، أو هل من المعقول الله يسمع لي انا الخاطي، أو من أنا لكي يسمع لي الله،
وبالتالي وفي هذا الوقت نبحث عن نجاتنا عند الناس، وعند الرؤساء ونظن أنهم قادرين على حمياتنا من كل المخاطر: [ فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه ] (عبرانيين 4 : 16)، [ وهذه هي الثقة التي لنا عنده انه إن طلبنا شيئا حسب مشيئته يسمع لنا ] (1يوحنا 5 : 14)


(ب) علامات فاعلية الإيمان الحي والتخلص من الشك :

في الحقيقة أن علامة فاعلية الإيمان وقوته وإسقاط الشك من قلب الإنسان هو المثابرة والمواظبة والمداومة على الصلاة ، فإن المثابرة بالصلاة هي الحجارة التي يُشاد عليها بناء الإيمان الحي ويُغذيه، لأن بالصلاة وكشف القلب أمام الله عن احتياج لتقوية الإيمان والإصرار على عطية الإيمان الحي، ينال الإنسان إن كانت هذه هي شهوة قلبه، لأن هذه الطلبة على الأخص هي حسب مشيئة الله، لأن بدون إيمان لا يُمكن إرضاؤه، والإيمان النابض بالرجاء الحي والراسخ هو عطية الله، إذ أن الله يكشف لقلب الإنسان عن شخصه ليؤمن به، لأن إعلان الله في قلب الإنسان هو أساس الإيمان، فيؤمن الإنسان بالله مخلصه وينال من الله قوة الإيمان فينمو ويتقدم ويزداد إيمانه يوماً بعد يوم إن غذاه بالصلاة ولم يهملها، لأن الصلاة تزيد الإيمان وتشعله … [ فقال الرسل للرب زد إيماننا ] (لوقا 17 : 5)، وهذه صلاة حقيقية نبعها احتياج القلب الشديد.

يقول القديس مقاريوس الكبير: [ إن الرب يُطيل أناته علينا ويمتحن إيمان مشيئتنا ومحبتنا لهُ امتحاناً. فيجب علينا أن نُزيد اجتهادنا ومثابرتنا في طلب النعم والمواهب، مؤمنين وواثقين ثقة كاملة بأن الله أمين في وعده وهو يُعطي نعمته للذين يُداومون على الطلب بإيمان إلى المنتهى صابرين بغير تقلقل ]

ويقول الأب يوحنا كاسيان : [ قد تأكد تماماً أن صلاته لن تُستجاب ! ومن هو هذا البائس ؟: هو الذي يُصلي ولا يؤمن أنه سيحصُل على جواب ]، وطبعاً ليس أي سؤال يُستجاب من الله، والقديس باسيليوس الكبير يوضح لك بقوله: [ إذا كان سؤال حسب مشيئة الله ومرضاته، فلا تكف عن السؤال حتى تناله. الرب نفسه لكي يلفت نظرنا إلى هذا قال مَثل الرجل الذي تحصَّل على الخبز في نصف الليل من صديقه بلجاجته (لو11: 5) ]

ويقول الأب يوحنا الدمشقي: [ وحتى إذا لم تأخذ طلبتك كما تود وترغب، حصلت على المنفعة. لأن عدم نوالك ما تشتهي يُفيد غالباً أنك نلت أحسن مما اشتهيت ]

ويقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [ الله يعرف الساعة بالضبط التي إذا ما أعطانا فيها الشيء يكون حينئذٍ ذا نفع لنا. الطفل يُصيح ويغضب ليأخذ السكين ! والمحبة الأبوية تأبى إعطاءه إياها. هكذا الرب يُعاملنا مثل هذا، فهو يُعطينا أحسن مما نطلب ]

ويقول أيضاً: [ إذا أخذنا ما نطلبه أو لم نأخذه يجب أن نبقى في الصلاة. ليتنا نشكر ليس فقط حينما نأخذ ولكن حينما لا نأخذ أيضاً. لأننا لا نعرف ما هو الصالح لنا بل الله. لذا فيجب أن نعتبر الأخذ وعدم الأخذ نعمة متعادلة ونشكر الله من أجل هذه وتلك ]

ويقول الأب يوحنا الدرجي: [ حينما تدوم طويلاً في الصلاة لا تقل إني لم أستفد شيئاً. لأنك ها قد استفدت بالفعل الاتصال والثبوت في شركة غير منقطعة معهُ ]

ويقول الأب يوحنا كرونستادت (عاش في روسيا 1829 – 1908م): [ ارفع نظر قلبك الداخلي إلى الله. واستوثق من رؤيته ملياً ثم أسأل منه ما تشاء باسم يسوع المسيح فسيُعطى لك، وفي لحظة يتم طلبك. لأنه في دقائق رِفْعِة إيمانك الصادق به، يصير اتحادك معه.وحينئذٍ ما تطلبه يكون لك حسب مشيئته، سواء كان من أجل خلاصك أنت أو لقرابينك، لأنك في هذه اللحظة تكون شريك الألوهية باتحادك الروحي مع الله [ أنا قلت إنكم آلهة ] (مز82: 6) ( يقصد هنا بنوتنا لله في المسيح بسبب اتحادنا بالمسيح الكلمة ).في ذلك الوقت لا يكون بينك وبين الله شيء، لا مسافة زمنية ولا مكانية. وحالما تنطق بكلماتك يكون سماعها فاستجابتها وتحقيقها ! ” لأنه قال فكان. هو أمر فصار ” (مز33: 9). ألم يكن هذا هو الحال بالضبط في تحويل الأسرار المقدسة ]

ويقول أيضاً: [ حينما تُصلي إلى الله من كل قلبك فأنت في الواقع تُحدث الله ليس كأنه خارج عنك، بل هو في داخلك وفي عمق قلبك: ” يثبت فيَّ وأنا فيه ” (يوحنا 6: 56) ]

عموماً باختصار شديد وتركيز، يقول الأب يوحنا كرونستادت: [ الأمانة هي مفتاح كنوز الله. وهي تسكن القلوب البسيطة الرحومة التي تُصدق وتؤمن ” كل شيء مستطاع لدى المؤمن “.الإيمان هو فم الروح، كلما انفتح بسخاء انسكبت فيه الينابيع الإلهية؛ آه .. ! ليت هذا الفم يكون على الدوام مفتوحاً، فلا تحبسه شفتا الشك وعدم الإيمان فتنحبس عنا كثرة أنعام الله.كلما فغرت فاك وأخلصت بأمانتك في قدرة الله اللانهائية، انفتح قلب الله لك بالجود والسخاء ]

ولنا أن نصغي لكلمة الرب يسوع لمريم قبل أن يُقيم لعازر قائلاً لها ولنا بالضرورة [ قال لها يسوع ألم أقل لك أن آمنتِ ترين مجد الله ] (يوحنا 11: 40)

_______________________________

(3) ثقة ويقين بفرح وغلبة العالم:

بفعل المحبة الإلهية أنتصر الرب على كل قوات الشر وجذب إليه قلوب البشر، إذ جمع كل أحاسيسهم وجذبها إلى نفسه، إذ قد بذل ذاته ومات على الصليب ليُحيينا بقوته، وبثقة استودع روحه في يدي الآب القدوس الذي هو معه واحد بلا انفصال: [ يا أبتاه في يديك استودع روحي ] (لوقا 23: 46)، وبذلك فتح الطريق لكل من يؤمن ويثق به ويتحد معه ليستودع روحه في يدي القدير، وبارتفاعه على الصليب وموته طرح رئيس العالم وبدد قوته وأزال سلطانة وجذب قلوب البشر نحوه: [ الآن دينونة هذا العالم، الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً، وأنا أن ارتفعت عن الأرض أجذب إليَّ الجميع ] (يوحنا 12: 31 – 32)
[ قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن ثقوا أنا قد غلبت العالم ] (يوحنا 16: 33)
[ ولكن شكراً لله الذي يُعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح ] (1كورنثوس 15: 57)
[ لأن كل من ولد من الله يغلب العالم وهذه هي الغلبة التي تغلب العالم إيماننا ] (1يوحنا 5: 4)
فينبغي علينا – نحن المولودين من الله – أن ندخل في خبرة الإيمان والسلام في المسيح المصلوب القائم من الأموات لنُدرك حقيقية غلبة العالم فيه، لأن هذا هو بالحقيقة الميراث المسيحي العملي الذي استلمناه من الإنجيل ومن القديسين الأوائل والشهداء الأتقياء محبي الرب واستمر هذا التسليم عبر الأجيال كلها إلى يومنا هذا بل وكل أيام حياتنا على الأرض، لكي ندخل معاً في خبرة غلبة العالم بربنا يسوع المسيح …

فالإيمان الحي على المستوى العملي بالمسيح الرب هو الثقة الكاملة والمطلقة بكل الكلام الذي قاله بفمه الطاهر. فكل آية أعطاها لنا هي كنز مُغلق سُلم لنا لكي نغتني بما تحتويه الآية من مواعيد صادقة أمينة مضمون تحقيقها لأنها مختومة بدمٍ كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح (1بطرس 1: 19)، قادر أن يحقق ما وعد به لأنه الشاهد الأمين البكر من الأموات ورئيس ملوك الأرض الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه (رؤيا 1: 5)، لا يخلف وعده قط، بل يُعطي ما وعد به ويحقق كل ما تكلم به بكل دقة، وهذا لن يتحقق لنا إلا إذا آمنا حقاً بكلام المسيح الرب [ صدقوني إني في الآب والآب فيَّ، وإلا فصدقوني لسبب الأعمال نفسها ] (يوحنا 14: 11)، هذا أن كنا نؤمن حقاً أنه هو الله الكلمة المتجسد، وتمسكنا به جداً بقلب واحد غير منقسم، فيتحقق لنا فيه كل المواعيد الثمينة كما قال ووعد [ لأن مهما كانت مواعيد الله فهو فيه النعم وفيه الأمين لمجد الله بواسطتنا ] (2كورنثوس 1: 20)، وهذا كله مضموناً بمحبة الآب لنا: [ لأن الآب نفسه يحبكم لأنكم قد أحببتموني وآمنتم إني من عند الله خرجت ] (يوحنا 16: 27)، [ الذي لم يشفق على ابنه بل بذله لأجلنا أجمعين كيف لا يهبنا أيضاً معه كل شيء ] (رومية 8: 32) …

عموماً التلميذ الحقيقي للمسيح الرب هو الذي يثق فيه ثقة حقيقية مُطلقة، وهو بذلك يُصبح في الواقع شاهداً أميناً لله ولمواعيده الصادقة، وهو يُقيم أمانته على أساس أمانة الله، فيثق بأن النعمة الإلهية ستكمل عنه: [ والآن استودعكم يا إخوتي لله ولكلمة نعمته القادرة أن تبنيكم وتُعطيكم ميراثاً مع جميعه القديسين ] (أعمال20: 32)، [ واثقاً بهذا عينه أن الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً يُكمل إلى يوم يسوع المسيح ] (فيلبي 1: 6)
[ أنكم لستم ناقصين في موهبة ما وأنتم متوقعون استعلان ربنا يسوع المسيح الذي سيثبتكم أيضاً إلى النهاية بلا لوم في يوم ربنا يسوع المسيح. أمين هو الله الذي به دُعيتم إلى شركة ابنه يسوع المسيح ربنا ] (1كورنثوس 1: 7 – 9)

أن هذه الثقة التي يؤكدها الرسول هنا، تُعطي المسيحي الحقيقي – حتى في ساعات الأزمة – يقيناً لا يضعُف، ليبشر بكلمة الله بكل حرية: [ بل بعد ما تألمنا قبلاً وبُغي علينا كما تعلمون في فيلبي ، جاهرنا في إلهنا أن نُكلمكم بإنجيل الله في جهاد كثير ] (1تسالونيكي 2: 2)؛ [ وأقام بولس سنتين كاملتين في بيت استأجره لنفسه وكان يقبل جميع الذين يدخلون إليه كارزاً بملكوت الله ومُعلماً بأمر الرب يسوع المسيح بكل مجاهرة بلا مانع ] (أعمال 28: 30 – 31)

وبالطبع إذا كان التلاميذ الرسل قد أدوا – من أول الأمر – الشهادة بكل شجاعة الإيمان بيقين، فقد تم ذلك لأن ثقتهم كانت قد نالت النعمة عن طريق الصلاة: [ ولما أُطلقا – بطرس ويوحنا – أتيا إلى رُفقائهما وأخبراهم بكل ما قاله لهما رؤساء الكهنة والشيوخ. فلما سمعوا رفعوا بنفس واحدة صوتاً إلى الله وقالوا أيها السيد أنت هو الإله الصانع السماء والأرض والبحر وكل ما فيها، القائل بفم داود فتاك: لماذا ارتجت الأمم وتفكر الشعوب بالباطل، قامت ملوك الأرض واجتمع الرؤساء على الرب وعلى مسيحه، لأنه بالحقيقة اجتمع على فتاك القدوس يسوع الذي مسحته، هيرودس وبيلاطس البنطي مع أمم وشعوب إسرائيل ليفعلوا كل ما سبقت فعينت يدك ومشورتك أن يكون، والآن يا رب أنظر إلى تهديداتهم، وامنح عبيدك أن يتكلموا بكلامك بكل مجاهرة، بمد يدك بالشفاء ولتُجرَ آيات وعجائب باسم فتاك القدوس يسوع؛ ولما وصلوا تزعزع المكان الذين كانوا مجتمعين فيه. وامتلأ الجميع من الروح القدس، وكانوا يتكلمون بكلام الله بمجاهرة ] (أعمال 4: 23 – 31)

إن هذه الثقة التي لا تتزعزع – بالرغم من الضيق والتهديد – هي أحد شروط الأمانة [ لأننا قد صرنا شركاء المسيح إن تمسكنا ببداءة الثقة ثابتة إلى النهاية ] (عبرانيين 3: 14)، وهذه الثقة تُعطي لشهود المسيح الرب يقيناً وفرحاً وفخراً: [ وأما المسيح فكابن على بيته ( أما المسيح فهو مؤتمن على بيته لكونه ابناً )، وبيته نحن إن تمسكنا بثقة الرجاء وافتخاره ثابتة إلى النهاية ] (عبرانيين 3: 6)
ولذلك فهم متيقنين أن لهم منفذاً لعرش النعمة [ فلنتقدم بثقة confidence إلى عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة عوناً في حينه ] (عبرانيين 4: 16)
وقد صار لهم طريق مفتوح بدم يسوع [ فإذ لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرسه لنا حديثاً حياً بالحجاب أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله، لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان ( ملئ ثقة الإيمان أو كامل الإيمان in full assurance of faith ) مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير، ومغتسلة أجسادنا بماءٍ نقي ] (عبرانيين10: 19 – 11)
وهذا الإيمان الواثق بكل يقين في الرب لا يخشى أو يخاف شيئاً قط مهما كان نوعه أو حجمه أو فظاعته لأن هناك معرفة حقيقية على من نتكل ونستند : [ كونوا مكتفين بما عندكم، لأنه قال: لا أهملك ولا أتركك، حتى أننا نقول واثقين: الرب مُعين لي فلا أخاف ماذا يصنع بي الإنسان ] (عبرانيين13: 5و 6)
[ لهذا السبب احتمل هذه الأمور (المشقات) أيضاً ، لكني لست أخجل لأنني عالم بمن أمنت وموقن ( موقن ومقتنع I am sure ; I have believed and I have been persuaded ) أنه قادر أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم ] (2تيموثاوس1: 12)
لذلك لن يوجد من يستطيع أن يفصلنا عن محبة المسيح [ فاني متيقن – I have been persuaded = I am sure – أنه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا ] (رومية 8: 38 – 39)

عموماً هذا الإيمان الواثق يُبرر الإنسان ويتغلغل إلى أعماق وجدانه الداخلي على مستوى الفعل والعمل، فيجعله فخوراً وثابتاً في الاختيار: [ فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح، الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النعمة التي نحن فيها مُقيمون، ونفتخر على رجاء مجد الله، وليس هذا فقط بل نفتخر أيضاً في الضيقات، عالمين أن الضيق يُنشئ صبراً، والصبر تزكية، والتزكية رجاء، والرجاء لا يُخزي، لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا ] (رومية 5: 1 – 5)
وهذا الإيمان الحي واليقيني يجعل الإنسان يطمئن لكل شيء يحدث حوله مهما كان: [ ونحن نعلم أن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله ] (رو8: 28)

عموماً بالإيمان نرى على مستوى الواقع العملي أن جميع الأمور المقاومة والمعاكسة لمسيرة الخلاص والحياة الأبدية وفي أسوأ الأحوال أو الأوضاع التي تقابل الإنسان المسيحي الحقيقي، الذي يحب الله ويضع ثقته الكاملة في شخصه المحب، تعمل سراً للخير، وبقوة، لذلك تطمأن نفسه لأنه على يقين ورؤية إيمان حي ينطق بشهادة حية بالروح قائلاً على مستوى الفعل والعمل: [ وأنا قلت في طمأنينتي لا أتزعزع إلي الأبد ] (مزمور 30: 6)، [ جعلت الرب أمامي في كل حين. لأنه عن يميني فلا أتزعزع ] (مزمور 16: 8)؛ [إنما هو صخرتي وخلاصي ملجأي فلا أتزعزع ] (مزمور 62: 6) …

وعموماً نجد أن الثقة – التي هي شرط للأمانة أي الإيمان – تثبُت بالمحبة، لأن المحبة التي دليلها الأمانة الثابتة تُعطي للثقة كل ملئُها: [ إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي، كما أني قد حفظت وصايا أبي وأثبُت في محبته ] (يوحنا15: 10)
وطبعاً كلمة حفظتم هنا ليس المقصود بها المعنى الدارج للكلمة، مجرد حفظ عقلي فكري لكلمة الله ووصاياه، إنما تعني الملاحظة الشديدة والدقيقة للطاعة والحياة، لأن الوصية هنا وصية الله التي تُنير العينين، وبذلك يصير معنى الحفظ الحقيقي هو الاعتناء والانتباه القلبي للوصية لتصير منهج حياتي الخاصة ومجال التطبيق العملي في واقع حياتي الشخصية، وبالطبع يؤدي ذلك للحراسة الدائمة وحفظ القلب في نور الوصية الصالحة والتي تنقي القلب بقوتها …

ولذلك فأن الذين يثبتون (يقيمون) في المحبة هم وحدهم الذين سيكون لهم ملء اليقين والثقة في محبة الله يوم مجيء الرب يسوع حسب وعده الذي يطلبونه ليلاً ونهاراً قائلين [ آمين تعالى أيها الرب يسوع ]، لأنهم لن يخافوا هذا اليوم بل يكون موضوع مسرتهم وفرحهم الحقيقي والكامل، ففي يوم الدين أو الساعة الأخيرة عند مجيء الديان العادل لن يخاف أو يرتعب المؤمن الواثق في الله، لأن المحبة الكاملة تنفي الخوف وتطرحه بعيداً:
[ الآن أيها الأولاد أثبتوا (يُقيم – يسكن) فيه، حتى إذا أُظهر يكون لنا ثقة (Confidence) ولا نخجل منه في مجيئه ] (1يوحنا 2: 28)؛ [ ونحن قد عرفنا وصدقنا (have believed) المحبة التي لله فينا، الله محبة ومن يثبت (يُقيم – يسكن – يُخلْص) في المحبة يثبُت في الله والله فيه، بهذا تكملت (اكتملت) المحبة فينا، أن يكون لنا ثقة (confidence) في يوم الدين، لأنه كما (كان) هو (المسيح) في هذا العالم هكذا نحن أيضاً، لا خوف في المحبة (there is no fear in love )، بل المحبة الكاملة (Perfect) تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف لهُ عذاب (لأن الخوف يعني العقاب Punishment )، وأما من خاف فلم يكتمل في المحبة – He who fears is not perfected in love ] (يوحنا الأولى 4: 16 – 18)

وبالطبع كل من يثق ويحب الله يعرف منذ الآن أن الله يسمع ويستجيب لصلاته بكل تأكيد وعن يقين: [ وهذه هي الثقة (confidence) التي لنا عنده، أنهُ إنْ طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا، وإن كُنا نعلم أنهُ مهما طَلَبْناَ يسمع لنا، نعلم أن لنا الطلبات التي طلبناها منه ] (1يوحنا 5: 14 – 15)، ولذلك يعلم أن كل حزن وضيق في هذا الزمان سيتحول حتماً إلى فرح لن ينزعه أحد منه: [ الحق الحق أقول لكم، إنكم ستبكون والعالم يفرح، أنتم ستحزنون ولكن حزنكم يتحول إلى فرح، المرأة وهي تلد تحزن، لأن ساعتها قد جاءت. ولكن متى ولدت الطفل لا تعود تذكر الشدة لسبب الفرح، لأنه قد وُلِدَ إنسان في العالم، فأنتم كذلك عندكم الآن حُزن ولكني سأراكم أيضاً فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم ] (يوحنا 16: 20 – 22)
فالإنسان يجزع جداً من الألم وبخاصة النفسي، فيرتجف أمام فكرة إدارة الخد الآخر للمعتدي اللاطم على وجهه أو حتى الضارب على الظهر، بل ويؤكل قلبه أكلاً حينما تُسلب أمواله أو يُهان اسمه، أو تُهدد كرامته أو يُقطع عيشه من أجل أنه لم يفعل شيئاً سوى أنه مسيحي فقط، ولكنه بإيمان حي واثق في رب الحياة يسلم أموره بحب ويقبل الألم والضيق لأنه ليس عن شر إنما لأجل الاسم الحسن وعريس النفس الذي يحبه ويشتاق أن يذهب إليه أو يأتي سريعاً، لأنه واثق أنه سيحصد بابتهاج ما زرعه بالدموع في هذا العالم، بل وهنا على الأرض يتهلل فرحاً، لأن المكسب الروحي لا يُقاس عظمة أمام تفاهة الخسارة:
[ ودعوا الرسل وجلدوهم، وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع، ثم أطلقوهم. وأما هم فذهبوا فرحين من أمام المجمع لأنهم حُسبوا مُستأهلين أن يُهانوا من أجل اسمه ] (أعمال 5: 40و 41)
[ لأنكم رثيتم لقيودي أيضاً، وَقَبلتم سلب أموالكم بفرح، عالمين في أنفسكم أن لكم مالاً أفضل في السماوات وباقياً، فلا تطرحوا ثقتكم التي لها مجازاة عظيمة ] (عبرانيين 10: 34و 35)
[ أما الآن فإني آتي إليك وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم ] (يوحنا 17: 13)
لذلك لسان حال المؤمن الحقيقي الواثق في الله هو: [ مَن لي (هو) في السماء، ومعك لا أُريد شيئاً في الأرض ] (مزمور73: 25)

عموماً في ختام المعنى الأول للإيمان: الثقة نجد أن الكتاب المقدس يُحدد أن الإيمان هو الثقة بأمور لا تُرى، أي رؤية أمور آتية وكأنها حاضرة الآن، وهو يعتبر قفزة من المنظور الحاضر إلى اللامنظور الآتي، فنحن الآن لا نبصر مجد ملكوت الله الكامل، ولكننا ننظره في داخلنا ونحيا فيه برؤية الإيمان الواثق بأننا سندخله لأنه يعيش فينا ونرى عربون المجد في داخلنا، وهذه هي الثقة أي معنى الإيمان الحقيقي …

والثقة تؤكد علاقة حية شخصية بين طرفين، طرفي أنا الواثق في الله، وطرف الله الحي الذي يستحيل أن يخون الثقة لأنه أمين جداً يستحيل أن يخلف وعده مهما كان تقصيري أو خيانتي في حفظ الأمانة، بل يُساعدني ويعطيني القوة لحفظ الأمانة بقوة نعمته وتحرير إرادتي من الشر إن أردت
وأنا أن وثقت في الله بالحق وعشت حسب وصاياه كعهد ثقة بيني وبينه مبنيه على اعتمادي على شخصه القدوس الذي يحبني، سيصير بشخصه في داخلي – على نحوٍ ما – في قلبي، في أعماق وجداني …

ونختم المعنى الأول للإيمان بأقوال الآباء:
[ حينما تسأل البركات والنعم من الله، فآمن أن الله هو كل شيء لك. فحينما تسأل صحة فهو صحتك وعافيتك، وحينما تسأل إيماناً فهو إيمانك ورجاؤك، وإذا سألت سلاماً وسروراً فهو سلامك وسرورك، وإذا سألت معونة ضد عدو منظور أو غير منظور فهو كل قوتك ومعونتك؛ وإذا سألت أية نعمة أخرى فهو بذاته سيكون هذه النعمة لك طالما يرى أن فيها ربحاً لك: “الله الكل في الكل “ ] (الأب يوحنا كرونستادت)
[ الإيمان والثقة ليسا من نصيب الذين فسدت ضمائرهم بالعبد عن الحق، وإنما هما من نصيب الذين ساروا في وصايا الرب يسوع وتداخلوا معه في سيرة الفضيلة واستنارت نفوسهم بالحق ] (القديس مار اسحق السرياني)

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى