موضوعات متنوعة للخبرة والحياة

سر يسوع تقديس الإنسان، أي تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله، كمجال حي لنتذوق عمل المسيح الخلاصي في حياتنا

سرّ يسوع تقديس الإنسان للاتحاد بالله
شهادة حية لإيمان مُسَلَّم من جيل إلى جيل
[ من التصق بالرب فهو روح واحد ] (1كو 6 : 17)
سر يسوع تقديس الإنسان أي تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله
كمجال حي لنتذوق عمل المسيح الخلاصي في حياتنا وهذا هو القصد من تجسد الكلمة

السلام لكم أيها الإخوة الأحباء في الرب
أننا اليوم سنتكلم بنعمة الله عن سرّ التجسد من جهة الخبرة، ولن نتكلم عن نظرية التجسد أو مجرد معلومات للحفظ والاستذكار أو رداً على أحد لم يُعلن له سر تجسد الكلمة، بل نُريد أن ندخل لهذا السر العظيم الذي للتقوى: [ عظيم هو سر التقوى الله ظهر في الجسد ] (1تي 3 : 16)، وذلك لكي نخرج من نظرية الحياة المسيحية والفكر إلى الدخول في الشركة مع الله في واقع حياتنا المُعاش وبالتالي مع القديسين ( رجاء العودة لرسالة القديس يوحنا الرسول الإصحاح الأول )

1 – مقدمـــــــــــــــة

سر يسوع تقديس الإنسان، أي تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله، كمجال حي لنتذوق عمل المسيح الخلاصي في حياتنافي ملء الزمان ظهر الله في الجسد كالتدبير، فتدفق علينا بكل ما له، إذ أخذ ما لنا وأعطانا ما له، وظهور الله في الجسد لا يعني انه مجرد ظهور مثلما أي ظهور لله في العهد القديم، بل ” الكلمة صار جسداً وحل بيننا (أو على أدق تعبير: فينا)” ( يو 1 : 14 )، و ” كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله ” ( 1يو 4 : 2 )

فالكائن الأزلي قبل الأكوان الذي في حضن الآب، المساوي والجليس والخالق الشريك معه، دخل إلى عالمنا وزماننا في تاريخ البشرية، إذا صار الكلمة جسداً أي إنساناً؛ تجسد وتأنس مشابهاً لنا في كل شيء ما خلا الخطية وحدها: ” فسمعناه، ورأيناه بعيوننا، وشاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة ” (1يو 1 : 1 )
ويقول القديس كيرلس الكبير: [ كيف تحقق التجسد، إلا إذا صار الكلمة جسداً أي إنساناً، جاعلاً الجسد جسده باتحاد بلا افتراق لكي يكون فعلاً جسده وليس جسد آخر سواه ]

ونعود نقول ونؤكد: ” والكلمة صار جسداً وحل بيننا ( فينا ) وقد رأينا مجده، مجد وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً.. ومن ملئه نحن جميعاً أخذنا، ونعمة فوق نعمة ” ( يو1 : 14 و 16 )
يقول القديس غريغوريوس النزينزي: [ هذا هو مغزى السرّ الأعظم الحاصل من أجلنا، سرّ الله المتجسد من أجلنا… لقد جاء لكي يجعلنا جميعاً واحداً في المسيح، في ذاك الذي حلَّ فينا بالكمال لكي يعطينا كل ما له ] (عظة 7 : 23 )
ويقول القديس كيرلس الكبير: [ لاحظوا أرجوكم كيف أن الإنجيلي ( يوحنا ) اللاهوتي يتوَّج بحكمة كل طبيعة البشر بقوله إن الكلمة قد ” حلَّ فينا “. فهو يقصد بذلك أن يقول إن تجسد الكلمة لم يحدث لأية غاية أخرى إلا لكي نغتني نحن أيضاً بشركة الكلمة بواسطة الروح القدس فنستمد منه غنى التبني ] ( تعاليم في تجسد الوحيد 27 )
ويقول أيضاً: [ هكذا أعطانا نعمة البنوة وأصبحنا نحن بذلك مولودين من الروح لأن فيه هو أولاً حصلت الطبيعة الإنسانية على هذا الميلاد الروحي وبولس الإلهي كان يفكر في نفس الموضوع فقال بكل صواب: ” كما لبسنا صورة الترابي، سوف نلبس صورة السماوي ” وقال أيضاً: ” الإنسان الأول من تراب ترابي، والإنسان الثاني من السماء. ولكن كما الترابيين مثل الترابي، هكذا سيكون السمائيين مثل السمائي ” ( 1كو15 : 47 و 48 و 49 )
ونحن ترابيين، فينا التراب من آدم الأول الترابي أي اللعنه والانحلال اللذين بهما دخل ناموس الخطية في أعضاء جسدنا. ولكن صرنا سمائيين، وأخذنا هذا في المسيح، لأنه بالطبيعة الله وهو الكلمة من فوق، أي من الله، ونزل إلينا متجسداً بطريقة فائقة، فولد بالجسد من الروح لكي يجعلنا مثله ونصبح قديسين وبلا فساد، وتنزل إلينا النعمة من فوق، ويُصبح لنا بداية ثانية وأصل جديد فيه ]

أن هذا السرّ العظيم الفائق كل فحص، سرّ تجسد الكلمة، لابد من أن نتعمق فيه لا على مستوى الفحص العقلي الخاضع لتقلبات الفكر والمزاج الخاص، بل ينبغي أن ندخل إليه بل فيه كسرّ أُعلن لنا من الله في ملء الزمان حسب تدبيره الأزلي، أي ندخل في شخص الكلمة المتجسد، لأن سرّ التجسد كما علمنا آباء الكنيسة ليس بموضوع نظري فكري للمناقشة وعرض الأفكار أو إثبات للآخرين أن الله تجسد، بل هو مجال خبرة وتذوق وحياة شركة في سر التقوى بالوحدة في المسيح مع جميع القديسين كجسد واحد أعضاء المسيح المطعمين فيه كالأغصان في الكرمة…

وندخل لسرَ المسيح الرب، لا يعني على الإطلاق أن نتأمله من حين لآخر أو نتبنى أفكار عن تجسده ولا نصيره مجرد مثال أخلاقي لنا؛ ولكن معنى أن ندخل في سرّ شخص الكلمة المتجسد، يعني أن ندخل في سره العظيم، أي نشترك باستمرار وتواصل بل وبشكل متزايد في ناسوته الذي فيه اتخذ بشريتنا فنمتلئ بلاهوته‘ إذ أن لاهوته لم ولن ومستحيل على الإطلاق أن يفارق ناسوته لحظة واحده ولا طرفة عين.

وبمعنى آخر أكثر وضوحاً وباختصار ((( أن نلبس المسيح ))) وهذا هو حدث عمادنا، فنحن تعمدنا لذلك لكي ندخل إليه ، لكي نلبس المسيح، وهذا لكي يصير لبس المسيح حدث حياتنا كلها: [ لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح ( في into ) قد لبستم المسيح ” ( غلا3 :27 )

طبعاً في اللغة العربية المعنى ضعيف، فالمعمودية أو التعميد ليس فقط بالمسيح بل وفي المسيح ( كما هي موجودة في النص الأصلي اليوناني = into = في داخل ) لذلك يقول الرسول ” اعتمدتم في المسيح ” يُفيد الدخول الحقيقي في المسيح دخولاً سرياً غير منظور، وهو يظهر فينا بثمر الروح منظوراً من الناس في سر التقوى الذي يظهر فينا وحياة الوصية التي تظهر في أعمالنا، فيمجدوا أبانا السماوي بسبب الأعمال التي نعملها بالله…
فالذي بالمعمودية دخل في المسيح، لا يخرج بدونه قط، فهو يكون قد اتحد بالمسيح اتحاداً سرياً غير منظور بالحقيقة وليس مجازاً لذلك يقول بولس الرسول بنظرة ثاقبة لكي يقطع كل شك بيقين إيمان حي: ” فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ = in ” ( غلا 2 : 20 )
” لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع، لأنكم كلكم الذين اعتمدتم في المسيح قد لبستم المسيح، ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حرّ، ليس ذكر ولا أنثى، لأنكم جميعاً واحد “في” المسيح يسوع” ( غلا 3 : 26 – 28 ) (حسب النص اليوناني)
” لأننا جميعاً بروح واحد أيضاً اعتمدنا ( في ) جسد واحد، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحرار، وجميعنا سُقينا روحاً واحداً ” ( 1كو 12 : 13 )

لقد ضمنا الابن الحبيب إليه، في جسده، وقد ماثل بشريتنا بناسوته، فجعلنا نشاركه في طبيعته بتقبل صلاحه وروحه القدوس في أوانينا ( وطبعاً غير مقصود أننا نشاركه ألوهيته أي اننا نصير لاهوت، أو بأننا نصير الله ذاته أو نتحول آلهة – هذا تجديف – وهذا سوف نشرحه بالتدقيق في العنوان المخصص لذلك )
يقول القديس اثناسيوس الرسولي: [ الكلمة تجسد لكي يجعل الإنسان قادراً أن يتقبل اللاهوت ] ( ضد الأريوسيين ) (وبالطبع لا يعني أن الإنسان يختلط باللاهوت ويصير لاهوت أو يتحول للاهوت، هذا كلام نظري وتحوير في الكلام وقصد الآباء للنقاش والجدل العقلي ما بين مؤيد ومُعارض)
ويقول القديس هيلاري ( 367 م ): [ إن ابن الله قد وُلِدَ كإنسان من العذراء في ملء الزمان لكي يرفع البشرية في شخصه حتى إلى الإتحاد باللاهوت ] ( في الثالوث 9 : 5 ) (وطبعاً الاتحاد باللاهوت يعني الاتحاد بالله في سر جسد الرب أي المسيح الكلمة المتجسد الذي صار معنا واحد بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، بل هو اتحاداً سرياً كهبة وعطية وتقديس هيكلنا لسكناه بشخصه بدون اختلاط ولا تحول، بل تشرحه العبارة القادمة للقديس هيلاري)
ويقول أيضاً: [ فقد وُلِدَ ( ابن ) الله إذا من أجل أن يأخذنا في نفسه إلى داخل الله ] ( في الثالوث 9 : 7 )
ويقول القديس كيرلس الكبير: [ لقد وُلِدَ بحسب الجسد من امرأة آخذاً منها جسده الخاص لكي يغرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الافتراق ] ( تفسير لوقا 22 : 19 )

من هذا كله نتضح أنه ليس علينا أن نحيا مقلدين من بعيد ومن الخارج أعمال يسوع من محبة وابتعاد عن الخطية والتصرفات التي ينقلها لنا الإنجيل لكي نحيا في شركة مع الله، فالعمل لكي نكون قديسين بحسب المستوى الشخصي بدون شخص الكلمة الحي فينا فهو غير مقبول أمام الله لأن ثمرته تمجيد الذات والافتخار الشخصي وبلوغ ما ليس لنا: ” فقالت الحية للمرأة … إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان (( عمل شخصي )) منه تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة (( وليس كالله )) عارفي الخير والشر ” ( تك3 : 4 و 5 )

وطبعاً على المستوى العملي نسمع قائل: (( أنا مش ها قدر أروح الكنيسة إلا لما أبقى كويس )) وهذه حيلة عدو الخير الذي أوهم بها الإنسان، لأنه أقنعه أن الله ينتظر أعماله الذي بها يتبرر، فيبعده عن شخص الكلمة متصوراً بأن أعماله الحسنة تستطيع ان تُرضي الله، مع أن ثمر عمل الله فيه بالروح القدس هو فقط ما يُرضي الله …
غير طبعاً مستوى الوعظ الذي صار منهج للتدريب على القداسة الذاتية واعتبار شخص الكلمة مُجرد مثال لنا كي ما نحاول أن نتبع منهجه من الخارج بأننا نكون كويسين ولنا مجموعة من الأخلاق والمبادئ فلا نفعل شر ونبتعد عن الخطية اللي اتسببت في جرح المسيح وموته !!!!! مع التركيز على الناحية العاطفية التي فيها يتأمل الإنسان محبة الله وآلام المسمار ووجع الشوك فيبكي تأثراً – تأثير نفسي فقط – بهذه الأوجاع كبنات أورشليم الذين بكوا على الحبيب من أجل آلامه لا من أجل التوبة والالتصاق به والدخول في الشركة معه بالحب الباذل الذي يحمل الصليب بمسرة ذابحاً حياته من أجل من فداه ومات لأجله، ولن استفيض لأن الكلام كله معروف على مستوى الوعظ الذي نحفظه منذ الطفولة…

فالعمل الشخصي والقداسة التي نكون نحن مصدرها بالجهد الخاص كي ما نصل لله ونرضيه، ليست الطريق الحقيقي إلى الله، ولكن على العكس تماماً إنه هو هو أي الله بشخصه الذي يقدس الطبيعة البشرية التي اتخذها مرة وإلى الأبد ويدخلها إليه ويقدسها فيه لنكون مثله لأنه يطبع ملامحه الخاصة فينا بالروح القدس الذي يأخذ ما له ويعطينا

ويقول القديس كيرلس الكبير: [ فولد بالجسد من الروح لكي يجعلنا مثله ونصبح قديسين وبلا فساد، وتنزل إلينا النعمة من فوق، ويُصبح لنا بداية ثانية وأصل جديد فيه ]
[ ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كو 3 : 18)

____________________________________________________________

2 – غاية التجســــــــــد

التجسد فعل إلهي ذات حركتين، حركة نزول وحركة صعود، أي تنازل أو نزول إلهي وصعود بشري، أي الكلمة صار إنساناً لكي يرفع كل إنسان للإتحاد بالله؛ أي أن النزول العجيب الغير المدرك لله إلى عمق حالة البشرية الساقطة حتى إلى درجة الموت، قد صار نزول إلهي فتح لجنس البشر طريق الصعود لله وهذا هو الخلاص …

أي أن النزول الإلهي، أي نزول الله في الجسد، الكلمة صار جسداً، جعل البشر قادرين على الصعود في الروح القدس على حسب قول أبينا القديس اثناسيوس الرسولي.

لقد كان من الضروري أن يتم هذا الإتضاع الإرادي من جهة الله، المسمى بالإخلاء من مجد الألوهة الذي تممه شخص الكلمة المتجسد إذ أخلى ذاته آخذاً شكل العبد، وذلك حتى تُحقق البشرية الساقطة دعوتها إلى اللاهوتية ( أي الاتحاد بالله – وليس معنى ذلك أن يساوي الإنسان الله طبعاً بل هو فعل نعمة ممنوح من الله للإنسان بتجسد الكلمة الذي اتحد بنا اتحاد حقيقي غير قابل للانفصال بدون اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير ). وهكذا فأن هدف العمل الفدائي الذي أكمله المسيح له المجد أو بالحري هدف التجسد عموماً قد أصبح هو الهدف النهائي للبشرية كلها: أن تعرف طريق الإتحاد مع الله، وتحيا في شركة حقيقية معه بالوحدة الحقيقية في المسيح يسوع الكلمة المتجسد.

فإن كان هذا الإتحاد قد أكتمل في شخص ابن الله المتجسد، الذي هو (( الله صار إنساناً ))، فمن الضروري أن كل شخص بالتالي يؤمن بالمسيح الله الظاهر في الجسد، يصير مُقدساً بالنعمة فيُصبح مقر سكنى الله ويتطبع بالطبع الإلهي أي ” شريك الطبيعة الإلهية ” حسب تعبير القديس الطوباوي بطرس الرسول ( 2بط 1 : 4 )، ( مع ملاحظة أن الكلام لا يُقصد به بالطبع أن يصير شريك في الطبيعة الإلهية ذاتها من جهة الجوهر، يعني يصير أقنوماً لأن هذا تجديف ويستحيل أن يكون، وفهم حرفي للجدل والخروج عن عمل الله، بل المقصود هو أن يتطبع بالطبع الإلهي أي تحقيق صورة الله فيه بعمل النعمة )

فبالتجسد أخذ الله على نفسه طبيعتنا البشرية الساقطة والمتردية في شهواتها (1)، وضمها إلى لاهوته باتحاد غير قابل للافتراق (لاهوته لم يفارق ناسوته – وهذا هو إيماننا ) (2)، لتسري فيها الحياة الإلهية فتجددها وتشددها وتُعيد تكوينها من جديد بالقيامة وهذا هو قوة الخلاص وفعله …

فبالتجسد اتحد الله بالإنسان اتحاد حقيقي غير قابل للافتراق، لتسري في الإنسان حياة الله وهكذا يتقدس، وكيف يكون ذلك على المستوى الواقعي، يقول القديس أثناسيوس الرسولي: [ الكلمة اتخذ جسداً لكي ننال نحن الروح القدس ] ( تجسد الكلمة ، وأيضا ضد الأريوسيين : 8 )
ويقول القديس أمبروسيوس : [ بالروح نقتني صورة الله وننمو إلى مشابهته، وبالروح كما يقول معلمنا بطرس نصير شركاء الطبيعة الإلهية، وهذه الشركة لا تعطينا ميراثاً جسدياً ،بل تلك الرابطة الروحية في نعمة التبني ] ( عظة على الروح القدس 8 : 94 ، 95 )
ويقول أيضاً : [ إذن فقد خُتمنا بروح الله ” الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون خلاصنا.. ] ( أف 1 : 13 و 14 )، فنحن نُختم بالروح لكي نقتني بهاؤه وصورته ونعمته … حتى يصور الروح القدس فينا مشابهة الصورة الإلهية ] ( على الروح القدس 6 : 79 )
ويقول القديس اثناسيوس الرسولي : [ الكلمة صار جسداً لكي يجعل الإنسان قادراً أن يتقبل اللاهوت ] ( ضد الأريوسيين 2: 59 )
ويقول ايضاً : [ لقد صار إنساناً لكي يوحدنا مع الله في شخصه، وخرج من امرأة ووُلد من عذراء لكي يحول إلى نفسه جنسنا الضال، ويُصيرنا بالتالي جنساً مقدساً وشركاء الطبيعة الإلهية كما كتب بطرس الطوباوي ( 2بط: 1 : 4 ) ] ( الرسالة 60 إلى أدلفيوس ، ب.ج 26 : 1077 )
ويقول في منتهى التركيز والقوة: [ فلأجل هذا قد صار الاتحاد لكي يصير من هو إنسان بحسب الطبيعة ملتحماً بطبيعة اللاهوت، فيصير بذلك خلاصه واتحاده بالله مضموناً ] ( ضد الأريوسيين 2: 70 ، ب.ج 26 : 296 )
ويقول أيضاً: [ لقد صار الكلمة جسداً لكي يقدم هذا الجسد من أجل الجميع فنستطيع نحن أن نتحد بالله بمشاركة الروح القدس. فلم يكن ممكناً أن ننال ذلك بوسيلة أخرى إلا بأن يلبس هو جسدنا المخلوق ] ( الدفاع عن قانون نيقية 14 ، ب.ج 25 : 448 )

وهذا القول الأخير أظهر فيه القديس اثناسيوس النتيجة من تجسد الكلمة وهي أن ننال نحن الروح القدس لنتحد بالله بواسطته، أي أن الكلمة أخذ جسدنا ليتمكن من أن يعطينا روحه القدوس، وهذا هو عينة ما نقصده ونتغنى به في ثيئوتوكية الجمعة في الكنيسة القبطية:

هو أخذ جسدنا *** وأعطانا روحه القدوس
وجعلنا واحداً معه *** من قِبَل صلاحـــــــه
هو أخذ الذي لنــا *** وأعطانا الذي لــــــه
نسبحـــه ونمجده *** ونزيده علــــــــــــــواً

باختصار شديد، إن غاية التدبير الإلهي له شقين، الشق الأول هو العتق من الخطية أي الحرية من سلطان الخطية وهذا هو الفداء أو الخلاص
والشق الثاني : من جهة الدعوة الإلهية أو كمال الخلاص أو الغاية النهائية من التجسد يطلق عليها آباء الكنيسة = الإتحاد بالله = التبني، أي نصير أبناء في الابن الوحيد

ولكي لا يعتقد أحد أني أتكلم من نفسي أو من جهة تأملاتي الخاصة أكتب ما قد كتبه القديس إيرينيئوس ( أستشهد عام 200 ميلادية وهو من الآباء الرسوليين ) : [ أن البعض لا يقبلون عطية التبني ويحتقرون الميلاد البتولي الذي به تجسد كلمة الله. وهم بذلك يسلبون الإنسان من الارتقاء نحو الله ويصيرون غير شاكرين لكلمة الله الذي تجسد من أجلهم. فإنه لهذه الغاية قد صار كلمة الله إنساناً وصار ابن الله ابناً للإنسان: لكي يتحد الإنسان بالكلمة ويقبل التبني فيصير ابناً لله ] ( ضد الهراطقة 3: 19 : 1 – 3 )

عموماً كختام لهذا الجزء، نقول أنه سوف يُستعلن هذا السرّ بكاملة في نهاية الدهور، بعد أن تعود كل المخلوقات لتصير متحدة بالمسيح ليصير الله الكل في الكل:
+ ” اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَئ الْكُلَّ. وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ، لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ، إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ. ” ( أف4: 10 – 13 )
+ ” فَإِنَّ سِيرَتَنَا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضاً نَنْتَظِرُ مُخَلِّصاً هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلَّ شَيْءٍ. ” ( في3: 20 – 21 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) طبعاً لا اقصد من قريب أو بعيد أن المسيح كان فيه خطية (مستحيل طبعاً) ولكنه اتحد بنا اتحاد حقيقي كامل بلا خطية
(2) المسيح اتحد بنا اتحاد لا يقبل الافتراق يقول القديس كيرلس الكبير [ لقد وُلِدَ بحسب الجسد من امرأة آخذاً منها جسده الخاص لكي يغرس نفسه فينا باتحاد لا يقبل الافتراق ] ( تفسير لوقا 22 : 19 ، ب.ج 72 : 909 )

____________________________________________________________

3 – تقديس البشرية في المسيح

إن المسيح ابن الله بالطبيعة، في ملئ الزمان كالتدبير اتحد بطبعنا الإنساني، أتحد بجسدنا صار واحداً منا، أتحد بنا اتحاد حقيقي لا رمزية فيه أو مجرد ظهور في جسد، لذلك قال الرسول لكي يقطع الشك باليقين: ” والكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا ( فينا ) ورأينا مجده ” (يو1)
وبسبب تجسد الكلمة نستطيع أن نقول بكل تأكيد وإصرار أن كل قوانا البشرية صارت مكلله بالمجد الإلهي، وصار هذا الجسد محل سكنى الله عن جدارة، لأن الكلمة أتخذ جسداً ووحده مع لاهوته بطريقة عجيبة تفوق وتعلو فوق كل فكر وفوق كل لفظ أي حسب قول أبينا المحبوب كيرلس الكبير: بطريقة ما، بغير اختلاط أو امتزاج أو تغيير …

الله أتى إلينا على الأرض لا كمجرد ظهور إنما يحيا وسطنا بنفس ذات الجسد إنما بلا خطية، فقد شاهدنا مجده (يو1 : 14 ) في جسد طفل: [ أنهُ وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مُخلص هو المسيح الرب = ( الكلمة صار جسداً ) وهذه لكم العلامة تجدون طفلاً مقمطاً مضطجعاً في مذود ( حل بيننا وفينا بالطبع ) ] ( لو2 : 11 و 12 )، [ فسمعناه، ورأيناه بعيوننا، وشاهدناه، ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة ] (1يو 1 : 1 )

فبكل يقين وبلا أدنى شك، أصبح الجسد عينه مكان سكنى الله وحلوله، فالجسد البشري صار أداة إلهية من خلالها قدس الله الإنسان بواسطة الكلمة المتجسد، ولما صعد إلى السماء في هذا الجسد عينه، نقلنا معه ونقل الخليقة كلها إلى الآب ينبوع كياننا ومصدره، وهذا هو التقديس عينه: ” أن يجمع كل شيء في المسيح ” ( أف 1 : 10 )، وهذا يُسمى عند الآباء: الإنجماع الكلي في المسيح (anakefalaiwsiV )

ويقول القديس إيرينيئوس: [ في ملء الزمان صار ” الكلمة ” إنساناً منظوراً وملموساً لكي يجمع كل شيء في نفسه ويحتوى كل شيء ويبيد الموت ويُظهر الحياة ويُعيد الوحدة بين الله والإنسان ] ( برهان كرازة الرسل 6 )
ويقول أيضاً: [ فإن المسيح كما قلنا قد وحَّد الإنسان مع الله. فقد كان لائقاً أن الوسيط بين الله والناس، بحق قرابته الخاصة مع كل منهما، يُعيد الأُلفة والتوافق بينهما، ويُقدم الإنسان إلى الله، ويُظهر الله للإنسان … فإنه من أجل ذلك قد جاء مجتازاً في جميع الأعمار لكي يعيد للجميع الشركة مع الله ] ( ضد الهرطقات 3: 18 : 7 )

في التجسد اتّسمت بشريتنا بسمات الله، وارتدت إنسانيتنا بهاء الله، وصارت المادة نفسها جو إلهي يحيا فيه الله الذي تجسد وعاش بيننا وصار واحد منا؛ فتقديس الإنسان، يقوم بالأساس على عطاء الله ذاته لنا بكامل حريته، ليسكن هو نفسه فينا بمسرة ورضا كامل. وذلك لكي نكون له هياكل حقيقية مقدسة تخص حلوله، وبحسب تعبير القديس بولس الرسول: [ أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم (1كو3: 16)
فلقد اختار الله أن يصير محور إنسانيتنا بكل ما فيها، لقد وهب لنا ذاته واتحد بنا اتحاد حقيقي وصار معنا في وحده أشدّ ما تكون أُلفة وقُرباً. أنه يسكن فينا لأنه جعلنا هيكله الخاص، إنه يُقيم فينا جاعلاً منا جوه الخاص؛ إنه يصير هو نفسه قداستنا، لذلك لا تأتي قيمة أعمالنا الروحية مما نعمل نحن، بل مما يملئنا به الله من إيمان ومحبة ورجاء .

يقول القديس كيرلس الكبير عامود الدين : [ ” لأنه هو سلامنا ” ( أف2: 14 ) لأنه قد وحدنا مع الآب بواسطة نفسه إذ قد رفع سبب العداوة من الوسط وأعني به الخطية، وهكذا هو يبررنا بالإيمان ويجعلنا قديسين وبلا لوم، والذين كانوا بعيدين يدعوهم قريبين إليه، وإلى جانب ذلك، فقد خلق الشعبين في إنسان واحد جديد، صانعاً سلاماً ومصالحاً الأثنين في جسد واحد مع الآب. لأنه قد سُرَّ الآب أن يجمع فيه كل الأشياء ( أف1: 10 ) في واحد جديد متكامل، وأن يربط الأشياء السفلى مع الأشياء التي فوق، ويجعل الذين في السماء والذين على الأرض رعية واحدة. لذلك فالمسيح قد صار لنا سلاماً ومسرةً، الذي به ومعه لله الآب المجد والكرامة والقدرة مع الروح القدس على دهر الدهور آمين ] ( عظة على ميلاد مخلصنا بالجسد )

كثيرين في ضوء التعليم البشري [ الضعيف بحسب فكر الناس ونشاطهم الذهني وتأملاتهم الخاصة ] الذي يفصل بيننا وبين المسيح الكلمة المتجسد، يجعل المسيح بالنسبة لنا مجرد مثال كي ما نتبع أخلاقة وأعماله من خارج، ومن يريد أن يحيا هكذا يتعثر إذ يجد أن وصاياه ثقيلة حينما يبدأ أن يحيا حياة القداسة والجهاد، لأنه يظن أن جهاده وأعماله يقدر بها أن يصل لله، ولكن الصدمة أنه يجد نفسه متعثراً ولا يقدر أن يثبت فينهار ولا يقنع أن حياة التقوى والقداسة ممكنه لديه وأن الوصية تبدو غير معقولة إذ أن المعقول وما في المقدرة العين بالعين والسن بالسن، أما الغير معقول هو: أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا لمبغضيكم !!!!

فمن الطبيعي أن نحب من يحبنا، ونزيد في محبته وأن نبذل لأجله، ومن منا يتردد في أن يموت من أجل ابنه، ولكن من منا له القدرة أن يحب عدوه ويموت من أجله !!! أليس هذا هو عمل الرب يسوع نفسه، أليس هذا هو طريق إلهي أي طريق تطبع الإنسان بالطبع الإلهي أي تقديسه في المسيح فيعمل أعماله بقدرة الله التي نالها كهبة ونعمة بسبب تجسد الكلمة الذي آمن به واعتمد به وفيه !!!

ولكن لنفرح إن الكلمة صار جسداً وصار فينا، فهو هو نفسه قداستنا، وقيمة أعمالنا هي في مدى انفتاحنا على الله، ووجوده فينا ليصير هو عمق ذاتنا وقوة أعمالنا [ أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت فيَّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً ] (يو15: 5).
أن الله يهب لنا ذاته لنحيا من حياته، ونفيض بها على الآخرين أيضاً إذ تجري من بطوننا ينابيع ماء حي وتلك هي النعمة نفسها: فهي ليست مساعده تأتينا من الخارج من وقت لآخر لتسند ضعفنا، وهذا هو الفكر البشري والمعقول للعقل، ولكن عمل الله وسر التجسد ليس هذا بل هو نقيضه !!!

النعمة الممنوحة لنا هي سُكنى الله فينا بشخصه، ليعمل هو نفسه فينا ومعنا، ومن ثم يصبح عملنا البشري عملنا نحن وفي نفس ذات الوقت عمل الله فينا، بمنتهى الحرية والانسجام بين الله وبيننا أي توافق الإرادة كما يسمى السينرجي، أي توافق إرادتنا مع إرادة الله الذي به نحيا ونتحرك ونوجد. وتلك هي النعمة وهي الطبع الإلهي عينه الذي نتطبع به وننمو فيه، فنحن نمتلئ من محبته بسكيب غنى الروح القدس [ محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا ] (رو5: 5)، فنحب الرب من كل القلب والنفس والقدرة [ تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قدرتك ومن كل فكرك وقريبك مثل نفسك ] (لو10: 27)، وحينما نحبه بسبب أنه احبنا أولاً [ نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً ] (1يو4: 19)، فنحفظ وصايه بسهولة [ أن أحبني أحد يحفظ (يحيا ويعيش ويطيع) كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً ] (يو14: 23).

ونختم هذا العنوان بكلمة القديس أثناسيوس الرسولي: [ لقد جاء ( المسيح ) لكي يصير الناس فيما بعد وإلى الأبد هيكلاً طاهراً للكلمة. لو كان أعداء المسيح ( يتكلم عن الأريوسيين ) قد فهموا ذلك وأدركوا الغاية التي من أجلها تأسست الكنيسة، وتمسكوا بهذه الغاية كأنها مرساة لهم، لما انكسرت بهم السفينة من جهة الإيمان ] ( ضد الأريوسيين 3 : 58 )

____________________________________________________________

4 – الجسد الترابي ليس عائقاً للتقديس

[ الكلمة صار جسداً ] أي أن الله الكلمة صار ما نحن عليه بحد تعبير القديس أثناسيوس الرسولي، فالكلمة اتحد بجسدنا الإنساني – كما قلنا سابقاً – اتحاداً حقيقياً لا يقبل الانفصال كما أنه اتحد اتحاداً حقيقياً بلا اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير، أي أن اتحاد الله الكلمة بإنسانيتنا لم يخرجه أو يغيره عن ألوهيته، وأيضاً اتحادنا به كبشر لم ولن يُخرجنا عن إنسانيتنا أو يغير شيء من طبعنا الإنساني، بل يمجدنا ويرفعنا للعلو الحلو الذي للقديسين في حالة من السمو حتى أنه ينسبنا إليه، لأن الآب بواسطة الابن الوحيد الذي معه في وحدة جوهر مع الروح القدس، يُقدسنا ويصبغنا بالفضائل الإلهية، وينير حياتنا إشراق نوره لمعرفة مجده في وجه يسوع: [ لأن الله الذي قال أن يُشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح ] (2كو 4: 6).

وهُنا نرى حركة نزول لله الحي – باتضاع عظيم – إلى الجسد الإنساني الترابي، وهي عينها حركة ارتقاء وصعود لنا نحن كبشر، وهذا هو التقديس عينه [ ليس أحد صعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن الإنسان الذي هو في السماء ] (يو 3 : 13)، ولذلك حينما يقول الكتاب المقدس بإعلان إلهي واضح إن كلمة الله [ صار جسداً ]، يعني بذلك أن كل كائن بشري في الجسد يؤمن بتجسد الكلمة إيمان حي حقيقي واعتمد فيه قد تطبع بالطابع الإلهي واتحد بالله بسبب تجسد الكلمة !!!

فلما صار الإله الكلمة إنساناً، صار لكل إنسان يؤمن وحدة حقيقية مع الله بتقديس الروح القدس، وصار له شركة حقيقية مع الله بسرّ الوحدة، فتتغلغل فيه سمات المسيح الرب الإلهية بعمل الروح القدس الذي يأخذ مما له ويُعطينا، لنصير في النهاية قديسين وبلا لوم أمامه في المحبة وتكتمل صورته فينا بنمونا إليها بالنعمة كل واحد حسب قامته وعمل النعمة فيه وانفتاح قلبه عليها …

ويقول القديس كيرلس الكبير: [ أن الابن الوحيد المولود من الآب له في طبيعته كل كيان الآب. ولما صار بشراً … اتحد بجسدنا البشري اتحاداً لا يُمكن وصفه بكلام بشري .
إنه في آنٍ واحد إله وإنسان. يوحَّدْ في ذاته، على نحوٍ خاص، ما هو مُتباين له أشد التباين، ويجعله مُشاركاً له في طبيعته الإلهية ]

أن الجسد في حقيقته – في نظر الإنجيل كلمة الله – هو علامة مجدٍ واعتزاز، فالشخص البشري ليس [ روحاً متعلقة في جسد ] كما قال الفلاسفة، بل هو – على العكس من ذلك – [ جسد تُحييه روح ]. والجسد والروح مقترنان معاً في الحب ويستحيل فصلهما، بحيث يُمكن القول أن الجسد هو كالعروس التي يملأها الله بنعمته وبهائه… فالله لم يوحَّد بين الروح والجسد عقاباً للروح، ولا انتقاماً منها، والله لم يخلق روحاً وصنع لها جسداً، بل خلق الإنسان كإنسان: جسد ونفس وروح معاً بدون تفرقة إطلاقاً ولا تمييز بين جزء فيه وآخر …

والجسد مقرّ سُكنى لمسرة الله. لذلك نرى بالروح القدس أن الله خلق الإنسان ووهبه جسد بدافع من حبه، وبدافع من نفس ذات الحب اتخذ لنفسه ذات الجسد، وإيماننا الحي حسب ما تسلمناه من كلمة الله ومن آباء الكنيسة يقول: إننا نؤمن أن المسيح الرب الإله الحي لما وحَّد في ذاته الجسد والخليقة أي البشرية، أعادها إلى مجدها الأول وإلى الآب التي منه صدرت…

فالخليقة بأسرها تجد في جسد يسوع المسيح الإله الكلمة المتجسد، مبدأ كرامتها ووحدتها وتضامنها. وهذه الحقيقة هي الخيط الذهبي الذي نسج منه اللاهوت المسيحي في العالم أجمع تعليمه على مدى التاريخ المسيحي كله، وبه اتسَّم واتخذ معناه المُميز الذي لا يُمكننا الإحاطة بكل أبعاده مهما ما توغلنا في الحديث عنه وبدقة وبدراسة كاملة، لأنه سرّ ندخل فيه بالروح ونغترف من غناه ونعيشه في حياتنا وننمو فيه يوماً بعد يوم …

ولكن الحقيقة التي أخرجها لنا لاهوت الخبرة عند آباء الكنيسة هي: إن البشرية كلها، بل الخليقة بأسرها، هي فيض متدفق من محبة الله الثالوث القدوس الإله الواحد الوحيد، وفي المسيح الإله الكلمة المتجسد أُعيدت إلى الله الثالوث القدوس …

ففي التجسد صار المسيح الرب جوهر حياة البشرية ومحور الخليقة كلها؛ والتجسد هو عمل محبة محض، أراد به الله أن يصير واحداً مع خليقته بانسجام وتوافق وتناغم وتلاحم شديد يستحيل أن ينفك أو قابل لأدنى انفصال قط، لذلك منذ التجسد وإلى الأبد لن يتخلى الرب يسوع عن جسده قط …

لقد صار الكلمة جسداً رغبة منه في أن تتجلى ألوهيته وتتمجد في البشرية التي خلقها وقصد منذ الأزل أن تكون هي المقرّ المختار لسكناه والمكان المحبوب لحضوره الخاص، لذلك قال بفمه الطاهر أنه لا يسكن في هياكل مصنوعة بيد بشر، بل أننا هياكل مقدسه خاصة له قد صنعها بيديه لتكون المقر الدائم لسكناه وحلوله الخاص والسري :

[ الإله الذي خلق العالم وكل ما فيه هذا إذ هو رب السماء والأرض لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي ] (اع 17 : 24)
[ أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ] (1كو 3 : 16)
[ أنتم هيكل الله الحي كما قال الله إني سأسكن فيهم وأسير بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً ] (2كو 6 : 16)
[ لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض ] (تث 7 : 6)

وكما يُقال في ليتورجيا الأروام في عيد البشارة [ اليوم بُشرى الفرح؛ اليوم العيد البتولي، اليوم السماء اتصلت بالأرض. آدم اكتسى حياة جديدة، وحواء أُعتقت من الحزن. جوهرنا الإنساني صار مقراً لسُكنى الله، وجسدنا البشري أضحى هيكلاً له ]

وبسبب نعمة التجسد تطبعنا بالطابع الإلهي وأصبح الله يُرى فينا من خلال جسدنا المادي هذا للخليقة كلها التي حينما ترى عمل الله فينا ظاهراً تمجده جداً: [ لأننا نحن عمله مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها ] (اف 2 : 10)؛ [ فليُضئ نوركم هكذا قدام الناس لكي يروا أعمالكم الحسنة ويمجدوا أباكم الذي في السماوات ] (مت 5 : 16)

ويقول القديس غريغوريوس بالاماس: [ إن الله غير المرئي للمخلوقات ولكنه ليس غير مرئي لنفسه، هو الذي سوف يُرى لا فقط من خلال النفس التي فينا، ولكن أيضاً من خلال جسدنا ]

ويقول القديس كيرلس الكبير : [ لقد تغيرنا إلى شكل المسيح روحياً وأيضاً جسدياً، لأن المسيح يحل فينا أيضاً بالروح القدس، وبسرّ الألوجية ] (تفسير رومية8: 3)

ويقول أيضاً: [ لقد نلنا نصيباً في القرابة معه بواسطة الإيمان . فقد صرنا شركاء معه في الجسد بواسطة سرّ الألوجية . وأيضاً اتحدنا به من جهة أخرى إذ صرنا شركاء طبيعته الإلهية بواسطة الروح (القدس) ]

وأيضاً يقول: [ كان ينبغي، نعم كان ينبغي ليس فقط أن النفس تتجدد في جده الحياة بالروح القدس، بل أن هذا الجسد أيضاً الكثيف الأرضي يتقدس بتناول جسدي مُناسب لطبيعته حتى ينال هو أيضاً عدم الفساد ] (تفسير يوحنا 6)

ويقول بأكثر وضوح: [ لقد خلق الله كل شيء للخلود. ولكن الموت دخل إلى العالم بحسد إبليس. فقد دفع المجرب الإنسان الأول للخطية والعصيان، وأوقعته تحت لعنة الله. فكيف يُمكن للإنسان الذي صار تحت سلطان الموت أن يستعيد الخلود؟ كان لابد أن يدخل جسده الميت في شركة قوة الله المُحيية. أما قوة الله المُحيية فهي اللوغس . لذلك فقد صار اللوغس إنساناً، واتحد بجسد قابل للموت، وأعطاه مناعة ضد الفساد، وجعلهُ جسداً مُحيياً. لكن كان ينبغي أن يحلَّ فينا روحياً بواسطة الروح القدس. كما يتحد أيضاً بطريقة ما بأجسادنا بواسطة جسده المقدس ودمه الكريم ] (تفسير لو22: 9؛ العبادة بالروح : 9 ؛ شرح متى26: 26)

ويقول القديس أثناسيوس الرسولي : [ الجسد – الترابي – أخذ الشركة في طبع الكلمة ] (ضد الأريوسيين)

____________________________________________________________

5 – تقديسنا في المسيح واتحادنا بالله لم يُغير بشريتنا عن طبعها الإنساني

إن مفهوم تقديس الإنسان والاتحاد بالله الذي يقصده الآباء لا يعني على الإطلاق تحول في الطبائع، أي تحول الطبيعة البشرية إلى طبيعة إلهية، ويفقد الإنسان إنسانيته ليصبح إله، ولكن المعنى هو: تأهيل الطبيعة البشرية للحياة مع الله في شركة المحبة بالقداسة أي التقديس، وذلك برفع الحاجز الخطير الذي يفصل حياة الإنسان عن حياة الله، أي رفع سلطان الخطية أولاً وتطهير القلب وغسل الضمير ورفع كل شكاية والتخلص النهائي من سلطان الموت، وذلك بتوسط غسل وتقديس دم المسيح لنا وبتناولنا جسده الذي هو لنا خلاصاً وغفراناً للخطايا وحياة أبدية. لذلك فالاتحاد بالله بمفهومه الكامل كحياة مع الله، لا يُمكن أن يتحقق إلا بالقيامة من الأموات وتمجيد هذا الجسد يوم استعلان ربنا يسوع [ نحن الذين لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا ] (رو 8: 23)، ولكن لأنه أُعطى لنا منذ الآن سر النعمة في أسرار ووصايا وقوة إلهية لكي نغلب بها الخطية، هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة [ كما أن قدرته الإلهية قد وهبت لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة. اللذين بهما قد وهب لنا المواعيد العظمى والثمينة لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة ] (2بط1: 3 – 4)، لذلك فقد انفتح أمام الإنسان – التائب المؤمن بالمسيح – باب إمكانية تذوق الاتحاد بالله بشركة المحبة والطاعة منذ الآن [ البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيرا للجسد لأجل الشهوات ] (رو 13: 14)، [ كأولاد الطاعة لا تشاكلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم ] (1بط 1: 14).

عموماً، فالله باتحاده بطبعنا الإنساني في تجسده، لم يُغير ذاته كما أنه لم يُغير بشريتنا من جهة أننا بشر، بل قدم ذاته نعمة وهبة لبشريتنا الضعيفة ورفعها إلى أعلى مستوى، أي ألبسنا ذاته، أي قدس بشريتنا وجعلها إناء مخصص لشخصه كمقرّ لسكناه الخاص والشخصي [ العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي كما يقول النبي ] (أع 7: 48)، [ أما تعلمون إنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم ] (1كو 3: 16)، فمنحنا نعمة خاصة ومقدرة على أن نحب من محبته ونحيا من حياته، لذلك قال: [ أحبوا أعدائكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات فانه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين و يمطر على الأبرار والظالمين ] (مت5)، ومن يقدر على هذه المحبة أن لم يكن طبعة سماوي، أي أنه دخل في شركة مع الله في المسيح الكلمة المتجسد فتطبع بطبعه السماوي ونال منه هذه المحبة [ لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا ] (رو 5: 5).

بنعمة التقديس ننال طبعاً جديداً فيُتاح لنا أن نُفكر على مثال الله [ لأنه من عرف فكر الرب فيُعلمه وأما نحن فلنا فكر المسيح ] (1كو 2: 16)، ونحب ونعمل كل شيء على مثال المسيح الله الكلمة المتجسد [ لأننا به نحيا و نتحرك و نوجد ] (أع17: 28). فلا توجد خليقة ما تستطيع بقوتها الذاتية والشخصية أن تُفكر وتحب أو تعمل على المستوى الخاص بالله إطلاقاً. ولكن الله بمجيئه إلينا واتخاذه طبيعتنا واتحاده الخاص بنا منحنا المقدرة على أن نُفكر كما يفكر هو فأصبح [ لنا فكر المسيح ]، وصرنا نُحب كما يُحب هو، لذلك نستطيع أن نفهم بوضوح قول الرسول: [ فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قُرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة ] (أفسس5: 1و 2)
فهكذا أعطانا المسيح الله الكلمة المتجسد أن نُفكر ونُحب ونكون حقاً على مثاله [ كونوا متمثلين بالله ]، فنصير واحداً معهُ في الفكر القلب.
ويقول القديس كيرلس الكبير: [ حتى كما أن الله نفسه محبة وفرح وسلام وإحسان وصلاح كذلك تكون النفس في الإنسان الجديد بالنعمة ] (حياة الصلاة ص199: 283)
ويقول القديس أغسطينوس: [ ما هذا الذي يومض في أحشائي ويقرع قلبي دون أن يؤلمني؟ فأرتجف بقدر ما أرى نفسي أني لست أُشبهه، وأطمئن بالقدر الذي فيه أرى نفسي أُشابهه!، أنها الحكمة هي التي تومض في أحشائي ] (حياة الصلاة ص198: 279)
ويُعبر القديس أثناسيوس الرسولي أروع تعبير على الوحدة مع الله وسبب مشابهته قائلاً: [ أن الله قد أتى إلينا ليحمل جسدنا، فيُتاح لنا أن نصير نحن حاملي الروح ].

في التجسد اتسمت بشريتنا بسمات الله وارتدت إنسانيتنا بهاء الله وصرنا بكل ما لنا جواً إلهياً يحيا فيه الله، وعندما نُقدم ذواتنا للمسيح تقدمة حُرة تامة ونقبل نهج حياته، يتحقق اتحادنا التام به ويصير التقديس فاعلاً فينا فنصير على مثاله حقاً.
ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ إن كانت النفس تُخصص ذاتها للرب، وتتمسك به وحده، وتسير بوصاياه، وتعطي روح المسيح حقها، إذا هي أتت عليها وظللتها، حينئذٍ تُحسب أهلاً لتصير روحاً واحداً وتركيباً واحداً معهُ، كما نص على ذلك الرسول : ” وأما من التصق بالرب فهو روح واحد ” (1كو6: 17) ] (حياة الصلاة ص200: 286)

ولا بد لنا أن نعلم يقيناً، إن الحياة الإلهية هي النعمة التي ترفعنا لهذا المستوى من التقديس والتخصيص لنتطبع بالطبع الإلهي، لأن الله هو من يعطينا ذاته ويهبنا هذه الشركة والمماثلة، دون أن نخرج عن إنسانيتنا إطلاقاً، فنحن سنبقى في شركة مع الله دون أن يقع خلط بين طبيعة الله وطبيعتنا الإنسانية التي تقدست في المسيح الرب، فدعوتنا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية وليس أن نكون آلهة بالطبيعة أو نتحول للاهوت لأن هذا مستحيل استحالة مطلقة لا نقاش فيها إطلاقاً!!!
عموماً الله القدوس هو من سكب فينا حياته وأعطانا روحه الخاص لنصير معهُ في أُلفة المحبة وفي حالة اتحاد سري في المسيح لنا أن نتذوقه ونعيشه كخبرة في حياتنا ولا نستطيع أن نُعَبَّر عن هذه الوحدة السرية في كمالها الإلهي لأنها سرّ عظيم يفوق كل إدراكنا، لنا فقط أن ندخله بالإيمان وفي سر الإفخارستيا العظيم…

إذن الإنسان شريك الطبيعة الإلهية لا بالطبيعة، لأنه بالطبيعة إنسان وسيظل إنسان، فوحدتنا مع الله وشركتنا معه لا تُغير من جوهر طبيعتنا البشرية على الإطلاق، فنحن ننال هذه الشركة ونحياها بواسطة وفي يسوع المسيح المتحد بجسم بشريتنا بغير اختلاط ولا امتزاج ولا تغيير.

ولكي لا يتشتت أحد ما ويتوه في معنى تقديس الإنسان في المسيح أو حسب اللفظ الآبائي الشهير “تأليه الإنسان”، أو يُدخلنا في مهاترات كلام خارج معنى الموضوع ويتهم أحد بالهرطقة ظناً منه أن التأله كلام حرفي المقصود به أن يصير الإنسان مثل الله ويخلق ويوجد في كل مكان مع أن المعنى الواضح من هذه اللفظة الآبائية هو انتساب الإنسان لله، ولكي لا يظن أحد أن “تأليه الإنسان” عمل يُخرج الإنسان عن إنسانيته أو يُغير شيئاً من طبيعته الإنسانية، نقرأ للقديس أثناسيوس الرسولي لتوضيح المعنى الحقيقي لهذا المصطلح كالآتي:
[ أن الآب بواسطة الابن يؤله ويُضيء الجميع… فالذي به ينال الجميع الألوهة والحياة كيف يُمكن أن يكون (الابن) من جوهر مخالف لجوهر الآب ]، [ ولكن ليس بحسب الطبيعة نكون ابناء الله، بل بسبب الابن الوحيد الذي يكون فينا، وكذلك أيضاً الاب لا يكون أباً لنا بحسب الطبيعة، بل لأنه أب الكلمة الذي يكون فينا، الذي به وفيه نصرخ يا أبا الآب. وهكذا الآب لا يدعو أبناء له إلا الذين يرى فيهم ابنه الوحيد ]، [ إذن فالروح هو الذي في الله، ولسنا نحن من أنفسنا نكون في الله، ولكن كما أننا نصير أبناء وآلهة بسبب الكلمة الذي يكون فينا، هكذا أيضاً نصير في الابن وفي الآب، ونصير واحداً معهما بسبب الروح الذي فينا، لأن الروح هو في الكلمة والكلمة نفسه هو بالحقيقة في الآب ]، [ من أجل هذا صار الكلمة جسداً لكي يقدم جسده عن الجميع، ولكي إذا اشتركنا في روحه “نتأله”، – وهي العطية التي كان يستحيل علينا الحصول عليها إذا لم يكن قد لبس هو بنفسه جسدنا المخلوق، لأنه من ذلك أخذنا إسمنا “كرجال الله” “وإنسان المسيح”، ولكن كما أنه يأخذنا الروح القدس لا نفقد طبيعتنا الخاصة (الإنسانية)، هكذا الرب لما صار إنساناً من أجلنا ولبس جسداً لم يتغير عن لاهوته، لأنه لم ينقص شيئاً عندما تسربل بالجسد، بل بالحري ألَّهه وجعله غير ماءت ] (ليتنا ننظر لتركيب الألفاظ والمعاني لنفهم القصد الآبائي الصحيح من لفظة [التأله]، هذه اللفظة التي اربكت الكثيرين بسبب عدم الخبرة وعدم الحياة في المسيح من جهة الخبرة، ولأنهم دخلوا للموضوع كد\اسة فكرية تعثروا والبعض رفض اللفظة جملة وتفصيلاً، لأنه الفكر لا يقبلها)…
و يقول القديس مقاريوس الكبير في عظته 49 في هذا الموضوع مُفرقاً بين النفس البشرية والله هكذا: [ هو الله وهي ليست إلهاً، هو الرب وهي صنعة يديه، هو الخالق وهي المخلوق، هو اصانع وهي المادة، ولا يوجد شيء مشترك قط بينه وبين طبيعتها ] ….[ وممكن الرجوع لهذه الفقرات عن توضيح معنى التأله وأن الإنسان لا يتحول لإله في كتاب القديس أثناسيوس الرسولي البابا العشرون (296 – 373م)، سيرته – دفاعه عن الإيمان ضد الأريوسيين، لاهوته – للأب متى المسكين – الطبعة الأولى مايو 1981 – مطبعة دير القديس أنبا مقار- وادي النطرون، من صفحة 437 إلى صفحة 447، وقد تم كتابة الفقرات ما بين صفحة 441، 442 ]

____________________________________________________________

6 – التقديس والاتحاد بالله لا يُفرض على الإنسان إنما هو قبـــــول حُرّ منـــــه

نقرأ في إنجيل يوحنا: [ كان في العالم وكون به العالم ولم يعرفه العالم، إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله. وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سُلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه… ] (يو1: 10 – 12)

فتقديس الإنسان للاتحاد بالله كابن في الابن الوحيد، لا يُفرض على الإنسان. فبالرغم من أنها نعمة من الله للإنسان، إنما نعمة الله دائماً تُقدر جداً حُرية الإنسان، لذلك فالتقديس والاتحاد بالله بالنعمة الإلهية يتطلب انفتاح كامل وواعي لقلب الإنسان، بل وكيانه كله يصير منفتحاً على نعمة الله التي تسكن فيه وتُقدس الروح والنفس والجسد معاً، فلابد من أن نعي هذه النعمة العُظمى ونقبل أن تعمل فينا فنقدم الإيمان ونصدق الله ونقبل عطيته لنا [وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سُلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنين باسمه ].

[ اليوم أن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم ] (عبرانيين3: 7 و 8)

النعمة يا إخوتي تقرع باب القلب ولن تدخل أبداً إن لم يسمع ويستجيب ويفتح الإنسان قلبه، فتدخل النعمة فيدخل فوراً في علاقة شركة قائمة على محبة قلبيه متبادلة بينه وبين الله حبيبه الخاص…

فلا يكفي أبداً أن نعرف النعمة ونسمع صوت قرعها على قلوبنا، ونفرح بحضورها معنا، بل لابدَّ من أن نفتح القلب لها باختيارنا وحريتنا وإرادتنا، لأننا نُريدها فعلاً وليس كلاماً !!! فإذ كان هناك على باب بيتنا ضيف نريده أن يكون معنا، أفلا نفتح له سريعاً لأننا نحبه ونُريده أن يدخل إلينا لنُقيم معه شركة، فكم تكون النعمة المُخلِّصة حينما تقرع باب القلب، كيف نتصرف معها ونعمل !!!

إن السرّ في علاقة الشركة والوحدة مع الله (أي التأله كما سبق وقلنا وشرحنا معانها في الجزء الخامس من الموضوع)، هو كونها علاقة لا تحيا إلا في جو من الحرية بين الطرفين (الله وأنا)، فالله من جهة يُبادر بالدعوة، وهي مجانية مقدمة منه بالمحبة وبذل ابنه الوحيد على عود الصليب، والإنسان بدوره يُلبي الدعوة ويستجيب لنداء الله بموافقة الإيمان:

[ كما أن قدرته الإلهية قد وَهَبَتْ لنا كل ما هو للحياة والتقوى بمعرفة الذي دعانا بالمجد والفضيلة اللذين بهما قد وَهَبَ لنا المواعيد العُظمى والثمينة، لكي تصيروا بها شركاء الطبيعة الإلهية هاربين من الفساد الذي في العالم بالشهوة ] (2بط1: 3 – 4)

ويقول القديس مقاريوس الكبير: [ كذلك الله الذي يعتني بالإنسان ويتراءف عليه، فإن النفس التي تأتي باشتياق إليه، ينقاد هو إليها بالمحبة وبتحننه الطبيعي المختص به، ويتحد بنفسها، ويصير معها روحاً واحداً كقول الرسول. لأن النفس بالتصاقها بالرب وبمداومة العقل في نعمة الرب بلا انقطاع، يتراءف الرب عليها ويسكب محبته عليها ويُلازمها، وبذلك فإن النفس تصير هي والرب روحاً واحداً وامتزاجاً واحداً وعقلاً واحداً، وإن يكن جسدها على الأرض فأن عقلها يكون بكليته في أورشليم السمائية، يعلو إلى السماء… ويتحد بالرب اتحاداً شديداً ويخدمه هُناك.

وكذلك أيضاً هو، حينما يكون جالساً على كرسي العظمة في العُلا، فهو يكون معها بكليته، لأنه وضع صورتها فوق في المدينة السماوية مدينة القديسين، أي أورشليم، وأما صورته الخصوصية أي صورة نور لاهوته الفائق الوصف فإنه وضعها فيها، هو يتولاها في مدينة جسدها وهي تخدمه في مدينته السماوية، هي وريثته في السماء وهو وارثها على الأرض، فالرب يصير ميراثاً للنفس والنفس تصير ميراثاً للرب. ] (القديس مقاريوس عظة 46)

ويقول أيضاً: [ ومن حيث أن النفس تكون… كثيرة الاشتياق الحار إلى العريس السماوي بالنعمة الساكنة فيها، وتشتهي دوماً أن تدخل بالتمام إلى الشركة السرية معه، (الشركة) الفائقة الوصف بتقديس الروح. حينئذ يكشف نظرها فترى العريس السماوي بعين نقيه وجهاً لوجه في ذلك النور الروحاني الذي لا يوصف… ] (حياة الصلاة ص200: 287)

____________________________________________________________

7 – التقديس والاتحاد بالله امتداد دائم

إن التقديس التي تحدثنا عنه الذي هو الاتحاد بالله وسكناه الحقيقي فينا ووحدتنا معه (أي التأله حسب المصطلح الآبائي) لا يتوقف عند حد، أو مرحلة معينة [ها ملكوت الله داخلكم (لو 17: 21) ]، وملكوت الله بطبعه يمتد وينمو في الإنسان، على قدر انفتاح القلب لاستقباله ونمو كل واحد فيه بحسب عمل الروح القدس، روح التقديس. [ ومن هُنا نفهم لماذا نستمر ونظل نتناول من سرّ الإفخارستيا ].

أن التقديس أو مسيرة الإنسان في حياة القداسة بالنعمة واتحاده مع الله ليس رتيباً أو وقوف ثابت، بل هو ممتداً في ملئ لا ينضُب.
ففي مُلك يسوع كل واحد يتقدم دائماً إلى الأمام، في سعي متواصل لا ينتهي قط [ أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي إني قد أدركت ولكني أفعل شيئاً واحداً إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام. أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع (في3: 13 – 14)]، فكل واحد يتقدم للأمام مستنيراً أكثر فأكثر بنور الثالوث القدوس.

ويقول القديس غريغوريوس النيصي: [ هُنا أن تحيا يعني أن تتغير. وأن تُصبح كاملاً يعني أن تكون قد تغيرت ]
ويقول أيضاً: [ في الملكوت (في الإنسان) جوهر الكمال يتألف بشكل دقيق من كونه لا يُصبح كاملاً أبداً، ولكنه في تقدم مستمر نحو الأمام، إلى كمال أعلى من الذي قبله ]

فيا إخوتي، أننا بلا أدنى شك، سنبقى على الدوام في شوقٍ إلى الامتلاء من الله غير المحدود وغير المتناهي. نحن بطبيعتنا المخلوقة محدودون وهو بطبيعته اللاهوتية غير محدود، وغير نهائي. وسيبقى شوقنا إليه وامتلائنا منه عملين دائمين من جهة، ومتزايدين لحظة بعد لحظة من جهة أُخرى، لأننا سنظل نمتلئ وندخل من مرحة لمرحلة أخرى في الملء والقداسة، وهكذا نستمر ولن نتوقف قط…

فبما أن الله غير محدود، فإن قداستنا وامتلائنا منه واتحادنا بشخصه هو تقدم دائم نحو الأمام، هو امتداد دائم مستمر لا يتوقف: [ أيها الإخوة: أنا لست أحسب نفسي قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً: إذ أنسى ما هو وراء وأمتدإلى ما هو قدام ] (في3: 13)
فالإنسان دائماً يمتلئ من الله، ومع ذلك يسعى دائماً إليه ولن يتوقف إطلاقاً إلا لو أصابه مرض روحي عطل مسيرته، أو خطية أربكت حياته، ولكنه يعود ويتوب ويلتمس الغفران والشفاء من الله ليستكمل المسيرة مرة أخرى وبشغف وشوق أعظم ناسياً ما فات ممتداً إلى الأمام…
والنفس دائماً تفرح في الرب، ومع ذلك تنمو دائماً في فرح أكثر [ أفرحوا في الرب كل حين وأقول أيضاً أفرحوا ] (في 4: 4)
وعموماً الله دائماً ما يقترب أكثر فأكثر منا، ومع ذلك سيبقى هو الله المحب الذي نسعى إليه أكثر فأكثر، ويوماً بعد يوم، وسنلتقي به وجهاً لوجه، ومع ذلك نستمر في الاقتراب منه أكثر فأكثر ونتعمق في سره الإلهي، ونكتشف أعماق هذا السرّ في كل أيام حياتنا بإعلان الروح القدس الذي يسكن أوانينا الخزفية الضعيفة…
وبالرغم من أننا لم نعد غرباء عن الله، ومع ذلك لن نتوقف عن أن نكون سائرين نحوه بشغف عظيم ومستمرين في المعرفة والرؤيا والقرب منه، متغيرين لصورته عينها [ من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كو3: 18)
إننا حقاً لن نصل أبداً إلى نقطة الاكتفاء والإنجاز النهائي لكل شيء، أو نكتشف كل ما يُمكن اكتشافه أو ندرك إدراك كامل لجميع الأسرار الإلهية، ويقول القديس إيرينيئوس: [ ليس فقط في هذا الوقت الحاضر، بل وفي الدهر الآتي أيضاً، سيكون لدى الله دائماً شيء ما جديد ليُعلمه للإنسان وسيبقى لدى الإنسان دائماً شيءٌ ما جديد ليتعلمه من الله ]

الشوق إلى الله لهيبٌ لا يبرد. فكلما وصل المشتاق إلى الله إلى درجة، فأنه يزداد لهيباً ليصعد لدرجة أخرى، ولذلك فهو يبتدئ باستمرار. فكل نقطة يصل إليها تُصبح بداية انطلاق لنقطة أعلى، يأخذ من الخبرة السابقة قوة وينطلق بها لقوة أعظم ليدخل لخبرة جديدة أمجد، وبذلك يستمر يمتد بلا توقف…

ونجد القديس بولس الرسول الذي قال أنسى ما للوراء وامتد لما هو قدام في فيلبي، أنه قالها بعد أن نوه في رسالة كورنثوس الأولى (2: 9 – 10)، رسالة كورنثوس الثانية (12: 1 – 4) بالمشاهدات الإلهية وصعوده للسماء الثالثة، ومع ذلك قال أنسى ما للوراء وامتد لما هو قدام، فهو لم يجلس ويتوقف عند مرحلة معينه بل تركها ليدخل في مرحلة أعمق وأمجد ناظراً لما هو قدام، مع أنه لم ينسى خبراته الروحية السابقة بل ظلت في قلبه كأساس لا يهتز أو يتزعزع ليكمل عليه البناء. وكذلك موسى أيضاً في العهد القديم، فبعد أن صعد إلى الجبل وعاين الله لم يكتفي بل طالب بأن يراه بعينيه، لذلك نجد أن كل من يعرف المسيح الرب حسب إعلان ذاته في القلب بالروح القدس، فأنه دائماً يشتاق إلى ما هو أعلى وأعظم وأعمق، فالله لا يُشبع منه أبداً، بل نظل نشرب ونرتوي ونشبع من ماء الحياة ودسم النعمة الذي يمدنا بالقوة الفائقة…

فالله الذي هو الخير والجمال الأعظم [ أنت أبرع جمالاً من بني البشر. انسكبت النعمة على شفتيك ] (مز45: 2)، هو الذي يجذب النفس إليه بلا هوادة:

[ أسمعي يا بنت وأميلي أُذنيكِ وانسي شعبك وبيت أبيكِ فيشتهي الملك حُسنك. لأنه هو سيدك فاسجدي له ] (مز45: 10)
[ أجاب حبيبي وقال لي قومي يا حبيبتي يا جميلتي وتعالي ] (نش2: 10)
[ أسمعيني صوتك لأن صوتك لطيف ووجهك جميل ] (نش2: 14)
[ صوت حبيبي قارعاً. افتحي لي يا أختي يا حبيبتي يا حمامتي يا كاملتي، لأن راسي امتلأ من الطل وقُصصي من ندى الليل ] (نش5: 2)
وبجذبه يتولد الشوق إليه في النفس: [ أنا لحبيبي وإليَّ اشتياقه ] (نش7: 10)

وبذلك تستقر النفس على الصخر أي شخص الكلمة المتجسد ربنا يسوع المسيح، ولكنها لا تعرف إلا الاستقرار فيه، إذ يزداد اشتياقها لرؤية متسعة وبالتالي إلى استقرار أعمق، وتطلب قوة الحب الذي لا ينتهي وذلك للتعمق والاتحاد بالعريس السماوي الذي هو سر حياة النفس وفرحها الحلو:

[ أجعلني كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك. لأن المحبة قوية كالموت. الغيرة قاسية كالهاوية. لهيبها لهيب نار لظى الرب. مياه كثيرة لا تستطيع أن تُطفئ المحبة والسيول لا تغمرها.. ] (نش8: 6 – 7)

فالنفس تتذوق الله بالمحبة، ولكنها لا تشبع منه قط، تستنير منه ولكنها تبقى في ظل نوراني، لأن مشاهدة النور الكامل والمطلق وبتمامه مستحيلة الآن ونحن في الجسد…
الله سرمدي أزلي أبدي غير متناهٍ في جوهره، والنفس خالدة وغير متناهية لا في جوهرها بل في صيرورتها حسب دعوة الله وسر خلقتها على صورته، فهي في حالة صيرورة دائمة تنمو وترتفع من درجة إلى درجة حسب النعمة المعطاة لها أي الموهوبة لها. فهي بالروح القدس تدخل إلى أعماق الله، ولكن تبقى أعماق الله مستحيل الوصول إلى كمالها المطلق…

يدخل الله إليها ويسكن فيها، ولكنها لا تستطيع أن تحوي كماله، فتطلب المزيد باستمرار فتخرج عن ذاتها إلى الله المحبة النورانية التي تبدد كل شبه ظلمة في أعماق النفس الداخلية…

ولا يزيد تقدم النفس إلا اضطراماً ولهفة للتقدم والتعمق. فهي تُفتش دائماً وأبدا عن الله وتستمر في الشوق إليه، وتُجاهد طالبه إياه وحده.
فالركض متواصل وبلا توقف. والله يوسع إمكانيات النفس لتدخل إلى العمق، إلى مياه سباحة نهر لا يُعبر (حز 47: 5)، وهي تنال منه بصورة نسبية، أي بحسب حالتها، أي في كل درجة، مثلاً، تنال بحسب وضعها في هذه الدرجة الروحية، وحينما تصعد إلى درجة أخرى أعمق تزداد سعتها فيزداد عطاء الله لها، فهي دائماً تسأل الله لتنال منه والله يجود عليها ويفيض…

ومن هُنا نستطيع ان نفهم قول القديس مقاريوس الكبير: [ النفس التي تحب الله بالحق، ولو أنها تعمل عشرة آلاف من أعمال البرّ، فهي تعتبر ذاتها أنها لم تعمل شيئاً بسبب أنها لا تشبع من إلهام الله.
وعلى الرغم من أنها تجهد الجسد بأصوام وأسهار كثيرة، إلا أنها ترى درجتها بالنسبة إلى الفضائل كأنها لم تبدأ بعد بأي عمل جَدي فيها.
وبالرغم من عطايا الفضائل الروحية الكثيرة والاستعلانات والأسرار السماوية التي يُنعم بها عليها، فهي تشعر في ذاتها أنها لم تحصل على شيء البتة، وذلك بسبب حبها غير المحدود لله الذي ترى أنها لم تشبع منه قط.

طول النهار تجوع وتعطش بسبب الحب والأمانة، تُصلي بمداومة وتستمر في تتميم الفضائل وفي التنعم بالأسرار بغير شبع، يدفعها حبها المتأجج للروح العُليا… باستمرار تتحرك بلا هدوء في داخل نفسها بالإلهام والنعمة نحو العريس السماوي متشوقة أن تصل إلى ملء الاتحاد معهُ بالقداسة لتستريح. وقليلاً قليلاً يرتفع الحجاب الثقيل عن وجه الروح فتُحدَّق في العريس السماوي وجهاً لوجه في نور الروح الذي لا يُعبَّر عنه، فتتلامس معه بكمال الثقة. وإذ تتشكل به ترقب حائرة بشوق عظيم أن تموت للمسيح لتكون معهُ على الدوام… ] (حياة الصلاة ص205: 306)

____________________________________________________________

8 – التقديس والاتحاد بالله كخبرة وعلامته في الإنسان

في الحقيقة الإنجيلية وحسب التسليم الآبائي الرسولي فالتجسد هو باختصار شديد وتركيز: [ الله صار جسداً، حتى كل ذي جسد يتقدس ويصير مقراً صالحاً لسكنى الله وحلوله الخاص ]، وهذا هو ما عبر عنه الآباء بلفظة [ التأله ] أي الاتحاد بالله، أي أن كل واحد فينا يتطبع بطبع جديد سماوي وهو طبع المسيح الرب، أي بمصطلح القديس بولس الرسول: [ خليقة جديدة ] [ إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديداً ] (2كو5: 17)، [ وأما من التصق بالرب فهو روح واحد ] (1كورنثوس6: 17)، أي باختصار شديد نتغير لصورة المسيح ونصعد لله في الروح القدس، إذ أن الروح القدس روح البنوة الذي يغيرنا إلى صورة الابن الحبيب ومن خلاله نتقدم لله الآب ونقول له أبانا وهذا هو قصد الآباء من كلمة التأله، وبحسب الإنجيل [ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كو3: 18)، وهذا هو التعليم الأرثوذكسي (المستقيم) الرسولي الآبائي الصحيح، والذي هو إيماننا الحي بتجسد الكلمة، وفعله فينا بالروح، فمن يقول أني أؤمن بالتجسد يحيا على هذا المستوى ويسعى إليه بكل طاقته، لأن التجسد ليس نظرية ولا فكر ولا مجرد احتفال بالمسيح الله الظاهر في الجسد ونحن بعيدين عنه، لأن الشيطان نفسه بعد موت الرب على الصليب عرفه أنه هو المسيح الكلمة المتجسد، فلو صدقنا فقط أنه الكلمة المتجسد أي الله الظاهر في الجسد، فماذا يفرق عن الشيطان الذي صدق ولكنه لم ولن يستطع أن يلتصق بالرب إطلاقاً ويستحيل أن يتغير إليه او يصير خليقة جديدة …

يا إخوتي، أن المراحل التي جاء بها الابن الحبيب إلينا واتحد بنا حتى الموت لأجلنا، هي المراحل عينها التي بها يضُمنا إليه ويوحَّدنا به، ويقودنا إلى الآب نبع الخيرات السماوية، إلى أن يجعلنا نتشرب بالتمام من حياته فيُحيينا بحياته الخاصة.

وهذه مراحل الطريق الوحيد الذي هو المسيح الرب بشخصه [ أنا هو الطريق والحق والحياة ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي ] (يو14: 6)، يكشفها لنا العهد القديم بالصور بروح النبوة والإلهام، ويُحققها يسوع المسيح اللوغوس الكلمة المتجسد فينا بروحه الساكن في أوانينا الخزفية؛ أنها كالآتي وكما أُعلنت: الخلق والوعد، الفصح والخروج، العهد والملكوت، الجلاء والعودة، التجديد وانتظار المنتهى.

فالعهدان، القديم والجديد، واللذان هما عهد واحد في جوهرهم، قد حفرا في قلب التاريخ هذا الفصح العظيم، فصح التجسد المؤلِّه، أي هو سر اتحاد الله بالإنسان، ورفعة الإنسان للمجد الإلهي في المسيح يسوع بعمل روح الله الذي قدسنا وخصصنا لله الحي وهو بذاته يعيش في داخلنا ويطبع فينا ملامحه الخاصة (بصورة نسبية) لنكون صورته لا كفكرة، بل حقيقة دامغة معلنه فينا وواضحة كلما نقرب منه كل يوم ونأخذ من شخصه نعمة فوق نعمة.

فيا إخوتي انتبهوا بقلبكم وركزوا أحاسيسكم في عمل الله باستنارة الذهن بالروح، فالكتاب المقدس بهذه الطريقة الذي نشرحها لا كحرف إنما كخبرة وحياة، فأنه يصير حياة الله فينا بالسرّ، مع ملاحظة أنه لم يعد معرفة السرّ الإلهي مجرد علم وثقافة ومعلومات جديدة وأبحاث، بل هو حدث يحققه الروح القدس ويُتممه فينا بتقديسنا وتغييرنا لشكل وصورة المسيح الرب، وتصير فينا كل يوم إشراق جديد بقوة أعظم طالما نحن نحيا بالتوبة والإيمان ولقاء الله الحي وجهاً لوجه في الصلاة وقراءة الكلمة بانفتاح الذهن المستمر بالنعمة…

عموماً الأمر لا يتعلق بفهم الطرق التي بها يُقدسنا المسيح الرب بروحه الساكن فينا، لأن فهمها يعسُر علينا. فالمهم هو أن نتمكن من أن نحيا على هذا المستوى بقوة الله وعمله في داخلنا.

والذي يجعلنا نحيا حياة التقديس والاتحاد بالله أي التأله (كما سبق وشرحنا)، بعمق وكثافة وازدياد هي الإفخارستيا، ويقول القديس مكسيموس المعترف [ يصير الإنسان إلهاً (التقديس والاتحاد بالله)، بقدر ما يصير الله إنساناً ].

فالقداسة المسيحية التي بها نُعاين الرب هي عملية تأليه (ليس مساواة الله طبعاً وقد سبق وشرحنا المعنى بالتفصيل ولن نُعيد ما سبق وشرحناه فرؤجاء للعودة للأجزاء السابقة لكي لا يفهم أحد الكلام خطأ كالعادة) أي الاتحاد بالله في المسيح، وذلك لأننا نشترك، في بشريتنا الواقعية المحسوسة، في بنوة المسيح من جهة أنه زرع نفسه فينا باتحاد غير قابل للافتراق، فأعطانا سمة بنوته وملامحها صارت فينا، (( وينبغي أن أؤكد لكي لا يفهم أحد الكلام خطأ كالعادة، أننا لا نشترك في بنوية المسيح الرب الطبيعية أي المساواة له، بل نحن نأخذ البنوة بالتبني وليس طبيعة، فنحن صرنا بسبب تجسد الكلمة وانتساب الجسد له، منتسبين إليه، لذلك صرنا ابناء لله بالتبني في المسيح يسوع الكلمة الظاهر في الجسد: [ وأما كل الذين قبلوه (قبلوا الله الكلمة المتجسد) فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه، الذين ولدوا (خليقة جديدة – إذاً أن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة) ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ] (يو1: 12و 13) ))

فنحن نتقدس حينما نزداد اتحاداً بناسوت المسيح ولاهوته اللذان لا فصل بينهما على الإطلاق [ لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ] (القداس الإلهي): [ وفيما هم يأكلون أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خُذوا كلوا. هذا هو جسدي. وأخذ الكأس وشكر وأعطاهم قائلاً: أشربوا منها كلكم. لأن هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يُسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا ] (مت26ى: 26 – 28؛ مرقس14: 22 – 24؛ لوقا22: 19 – 20)

عموماً نجد بوضوح شديد أن الليتورجية التي هي الإفخارستيا المحتفل بها، تجعلنا نعيش بكثافة، تدبير الخلاص الذي هو تقديسنا في المسيح، من أجل أن نحيا الآن وعلى طول الزمان، هذا الزمان الجديد الذي أُدخلنا يه من قِبَل التدبير حسب مسرة مشيئة الآب: [ مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح. كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة. إذ سبق فعيننا للتبني بيسوع المسيح لنفسه حسب مسرة مشيئته. لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب. الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته التي أجزلها لنا بكل حكمة و فطنة. إذ عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الازمنة ليجمع كل شيء في المسيح ما في السماوات وما على الارض في ذاك الذي فيه أيضاً نُلنا نصيباً مُعينين سابقاً حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته. لنكون لمدح مجده نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح. الذي فيه أيضاً أنتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضاً إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس. الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده ] (أفسس1: 3 – 14)

فيا إخوتي نحن في عهد التذكار: [ أصنعوا هذا لذكري Άνάμνησις – anamnesis ]: وهو التذكر الحاضر بملء قوة التدبير. ففي الاحتفال الليتورجي تذكر الكنيسة أحداث الخلاص التي صنعها الله في التاريخ، والتي اكتمل تحقيقها في صليب المسيح الرب وقيامته، وهذا هو الحدث الفصحي الذي لنا في الكنيسة، وهذا الحدث الفصحي الذي حدث في التاريخ الإنساني مرة واحدة ولن يتكرر، هو نفسه قد أصبح الآن معاصراً لكل لجيل، في كل لحظة من حياتنا:

فالمسيح الرب، بكونه قام من بين الأموات، أخترق الزمن المائت، فتحول الزمان إلى أبدية حاضرة مملوءة من حياة الله ومجده، يشعره كل من يقرب من الله ليطلب أن يقدسه ويدخله في حياة الشركة مع شخصه الحي.

عموماً المقصود بالتذكار، هو تذكار من نوع جديد تماماً: فنحن من يتذكر، إلا أن الحقيقة التي نتذكرها لم تعد في الماضي ولا في المستقبل، بل هي حاضرة في ملء قوتها وقوة فعل عملها، وهكذا تُصبح ذاكرة الكنيسة حاضرة حضوراً بهياً وفعالاً نتذوق منها الخبرة ونأخذ ونمتلئ ونحيا بها ونعيش، لذلك يا إخوتي عبارة [ أصنعوا هذا لذكري ] لم تكن عبارة للتفكير أو تذكر ماضي أو أحداث، بل هي قوة حياة ننال منها تقديس فوق تقديس، وقوة فوق قوة !!!

من هُنا نرى أن الاحتفال بسرّ الليتورجية هو المكان والوقت اللذان يتجلى فيهما ويظهر نهر الحياة الجارف في سر التدبير ليتدفق بغزارة على حياة المسيحي ليُقدسها ويربطها بوحدة واحدة مع الكنيسة في الله، وهنا فقط يصبح كل ما للمسيح الرب هو للإنسان كقوة روح وحياة في داخله مسكوبة حسب مسرة مشيئة الله، وهنا لا تصبح المسيحية لنا لغو كلام باطل ولا نظريات ولا معرفة عقلية بل معرفة اختباريه تظهر في حياتنا فيشع منا نور الله فيجذب الجميع إليه فيمجده الكل ويمدح مجد نعمته…

____________________________________________________________

9 – ما هي علامة التقديس أو الاتحاد بالله :

هو رفض كل ما للذات والتخلي من القلب عن كرامة الناس: [ مجداً من الناس لست أقبل. ولكني قد عرفتكم أن ليست لكم محبة الله في أنفسكم. أنا قد أتيت باسم أبي ولستم تقبلونني، أن أتى آخر باسم نفسه فذلك تقبلونه. كيف تقدرون أن تؤمنوا وأنتم تقبلون مجداً بعضكم من بعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه ] (يوحنا5: 41 – 44)، فالتقديس والاتحاد بالله والتحلي بثمر الروح والتمتع بكساء المجد في المسيح، يستحيل أن ينال منه الإنسان شيئاً طالما يعشق الكرامة ومديح الناس، لأنه كيف يؤمن ويطلب المجد الذي من الإله الواحد ويتمتع بشركة القديسين في النور، وهو يطلب مجد الناس ويسرق المجد الذي لله : [ يقاوم الله المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة ] (يعقوب 4: 6)، [ صنع قوة بذراعه شتت المستكبرين بفكر قلوبهم ] (لوقا 1: 51)…
يقول القديس الأنبا فيلوكسينوس عن الذين تقدسوا ودخلوا في الاتحاد بالله، وصارت لهم رؤيا الله واضحة في قلبهم: [ إن العقل (الذهن) في هذه الحالة لا يستطيع أن ينظر شيئاً، حتى ذاته، لأن روحانيته تكون متحدة بذلك النور الطاهر الملتحف به ] (حياة الصلاة ص102: 303)

فالتجرد من الذات هو العلامة الأكيدة للولوج لسرّ الشركة مع الله بالتقديس في المسيح الذي يُطلق عليه عند الاباء التأله، اي الاتحاد مع الله في شركة المحبة، فالله الكلمة أخلى نفسه، جرد ذاته. فالابن المتجسد هو ابن الله الحي اللوغوس، تخلى بإرادته وحده عن مجده آخذاً صورة عبد، حتى صار لا منظر له ولا جمال : [ من صدق خبرنا ولمن استعلنت ذراع الرب. نبت قدامه كفرخ وكعرق من أرض يابسة لا صورة له ولا جمال فننظر إليه ولا منظر فنشتهيه. مُحتقر ومخذول من الناس، رجل أوجاع ومختبر الحزن، وكمستر عنه وجوهنا محتقر، فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها، ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا، تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه، والرب وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه كشاة تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه. من الضغطة ومن الدينونة أُخذ وفي جيله من كان يظن أنه قُطع من أرض الأحياء، أنه ضُرب من أجل ذنب شعبي. وجُعِل مع الأشرار قبره ومع غني عند موته، على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش. أما الرب فسر بأن يسحقه بالحزن، أن جعل نفسه ذبيحة إثم، يرى نسلاً تطول أيامه ومسرة الرب بيده تنجح. من تعب نفسه يرى ويشبع وعبدي البار بمعرفته يبرر كثيرين، وآثامهم هو يحملها. لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يُقسم غنيمة، من أجل أنه سكب للموت نفسه وأُحصي مع أثمة وهو حمل خطية كثيرين وشفع ] (أشعياء 53).

فالتجرد، أو إخلاء الذات، هو بوجه خاص، طريقة الحب الإلهي: فالله أحب الإنسان بان صار إنساناً حتى النهاية، دون أن يفرض نفسه على الإنسان بالقوة، أو حتى يرغمه على قبوله قسراً، والتجرد يبدأ بتجرد الله الكلمة في التجسد، وينتهي بتجرد الروح القدس في الكنيسة، اي أن الروح القدس ينقل تجرد المسيح للكنيسة كلها ولكل عضو فيها، وبذلك بكشف عملياً كخبرة سرّ تجرد الله الحي في التجسد…

أن سرّ العهد الجديد الذي أقامه الله معنا في الكنيسة يتم تحت علامة التجرد، وكلما كان هذا التجرد فينا عميقاً كلما كان اتحادنا بالله في المسيح وثيقاً، التقديس والاتحاد بالله والشركة في الطبيعة الإلهية، لا يأتي بالكبائر ولا بالعظائم ومن هو الأفضل والأكبر والأعظم، بل بالتجرد، أي اننا لن نصعد لله في المسيح إلا بنزولنا لأقصى درجات التجرد من الداخل، فربما يكون الإنسان ذو شان عظيم في مجاله، رئيس مهندس عظيم، ملك ذو جاه وسلطان ومكرم عند الناس … الخ، ولكن في داخله متجرد من كل شيء وأذنه تصامت عن أن تسمع مديح الناس وتقبله، وبذلك يرتفع للمجد الإلهي بروح وداعة يسوع، روح التواضع والانسحاق الذي يسكن كل من يؤمن بالمسيح الرب طالباً أن يحل فيه بمجده ليدخل في سرّ حياة الشركة المقدسة…

أن تقديسنا الحقيقي وشركتنا مع الله، أي تمجيدنا في المسيح وارتفعنا للمستوى الإلهي بالنعمة، هو لقاء تجردّ الله الكلمة مع تجرد الإنسان المؤمن غيمان حي عامل بالمحبة، وهذا ما يُفسرّ سرّ إلزام الإنجيل الذي يقوم على: أننا بمقدار ما نخسر أنفسنا من أجل المسيح يتوثق اتحادنا به على مستوى الخبرة [ من وجد حياته يُضيعها، ومن أضاع حياته من أجلي يجدها ] (مت 10: 39)
يقول القديس مقاريوس الكبير: [ كل من استطاع أن يَطَّلِع على قيمة نفسه، يستطيع ايضاً أن يَطَّلِع على قوة الطبيعة الإلهية وأسرارها، وبذلك يزداد اتضاعاً، لأن بقوة الله يرى الإنسان ضعفه (2كو 12: 5)، فيجوز الآلام مع المسيح (رو 8: 17)، ويَصلُب ذاته ثم يتمجد معه (رو 8: 18)، ويقوم معه، ويجلس معه (أف 2: 6)، ويتحد بجسده ويملك معه في ذلك العالم ] (حياة الصلاة ص205؛ ص206: 306و 308)

____________________________________________

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى