مقالات

عجز الإنسان في معرفة الله – كيف تكون الشهادة لله الحي

إن كلمة [ اللاهوت ] هي تعبير يدل على كل ما يخص طبيعة الله، وبالتالي هذه الكلمة بطبيعتها تنفي أي تحديد بشري في جوهرها، لأن طبيعة الله لا تُحدّ أو توصف بحسب الإنسان وطبيعة فكره المتأثر بالثقافة التي يجمعها من خلال خبرات حياته وقراءاته بل وكل فلسفة دينية سمعها، لأن لا ينبغي أن نُحدد ما هو الله حسب معرفتنا وثقافتنا بل وتديُنا، لأننا كلنا نتفق – في جميع الأديان – أن الله هو اللامحدود واللاموصوف بالمعنى المطلق. ولا يوجد أي تشبيه أو مقياس إنساني بشري نستطيع به أن نُقنن ما لله الحي بشكل جذري قاطع مانع، كما أنه لا يوجد اسم واحد يُعبَّر عنه بشكلٍ صحيح، لأن كل أسماء الله التي نعرفها في الكتاب المقدس أسماء تخص وجهه المتجه نحو العالم، نحو كل إنسان، فحينما نسمع عن اسم [ أدوناي ] فهي إشارة إلى اللاموصوف، و [ يهوه ] هو الاسم الذي لا يُلفظ به، والمُعبِّر عن كينونة الله التي أُظهرت لنا أول مره بشكل محسوس في واقع لمسناه في شخص الكلمة المتجسد، لأنه حينما نقول عن الله القدوس: [الله]، [الخالق]، [المُخلِّص]، [المُحب]، [الصالح]… الخ، لا نعني الله في ذاته من جهة فحص مطلق لطبيعته ومعرفة كماله، لأن هذه الكلمات هي مطلقات في الله لا نستطيع أن نتعمق في جذورها المطلقه، بل من خلالها نعني خبرتنا معه بسبب تنازله العجيب وتعامله معنا، لأن الله لو لم يتعامل معنا قط، ولم يوجد له شهود عيان، ما كنا عرفناه ولا عرفنا كل هذه الحقائق عنه: [خالق]، [محب]، [رؤوف]، [طويل الأناة]، [لا يحفظ للأبد غضبه]، [مُخلِّص]، [متحنن]، [عطوف]…الخ..، فنحن نوصف الله من جهة تجليه لنا وظهور هذه الصفات من نحونا، لأننا سمعناها وقرأنا عنها من الذين رأوها وعاينوا مجد الله وتشربوا من نعمته وصارت قوة في حياتهم، بل واختبرناها نحن أيضاً في حياتنا فعلاً على المستوى الشخصي، لذلك بدورنا صرنا شهوداً وخداماً للكلمة، لأننا عاينا مجد الله بوجه مكشوف، ودخلنا في مجد الأسرار الإلهية وصارت لنا مُعلنات إلهيه في قلوبنا، بشهادة الروح القدس الذي يشهد لأرواحنا، ويعمل على تجديدنا، لأننا صرنا هياكل لله الحي، والروح القدس بشخصه اي بأقنومه يسكن فينا ولا يتركنا إلا لو تركناه ورفضناه، مع انه يظل يعمل فينا ليحثنا على التوبة والعودة لله الحي ليقدسنا ويربينا في التقوى، ويجعلنا – على نحوٍ ما – مشابهين صورة الله ويطبع فينا صفاته على قدر تشرُّبنا من النعمة وقبول عمل الله في داخلنا وتفاعلنا معه….

طبيعة الله يا إخوتي، طبيعة إيجابية، تتحرك نحونا لتعمل فينا بسرّ عظيم وإعلان مجيد، ولا نستطيع أن نتناولها كمجرد حديث عن شخص غائب، فنصوره على أساس أنه فكره تُشرح في بنود دينية متراصة مُقيدة بالفكر والمصطلح الجامد الغير متحرك، لأن الله في ذاته ليس إله static، أي إله راكد جامد، ثابت في موضعه، غير متحرك، بل هو شخص حي، حقيقته فريدة كُلياً من نوعها، ويستحيل إفراغها في أي منظومة فكرية، لأن الله ليس فكرة أو مجرد معلومة منحصرة في لفظة، ولذلك علينا أن نقترب من اللامحسوس بشكلٍ لا محسوس في سرّ، وهذا السرّ هو إعلان الله عن ذاته لنا بروحه القدوس المُحيي، لأن بدون إعلان الله عن ذاته وميله نحونا وتنازله لنا ليُعرفنا شخصه، تجعلنا – طبيعياً – أن نصنع ونخلق لأنفسنا أصنام عن الله، نتصارع عليها، لأن كل واحد يُريد أن يكون صنمه هو الإله الذي يعرفه الجميع، وأن مسه أحد وقال أن هذا خطأ ممكن أن يقتله، وان لم يستطع يحاول أن يشوه صنمه الذي صنعه، ويضع بكل مكر كل فكر يقاوم هذا الصنم ليتحطم أمام الجميع وينتصر هو ويرفع صمنه عالياً ليكون هو الصحيح والذي انتصر في هذه المعركة الهزيلة المفرغة من الرؤيا الحقيقية لإله حي، حضوره ذات سلطان يُنير النفس ويفتح الذهن ليفهم الأسرار الإلهية لله الحي الحقيقي الذي ليس مثله شيء…

يا إخوتي نحن هنا لا نتكلم فقط عن عجز الإنسان الطبيعي، الذي فقد كل معرفة صحيحة عن الله بسبب انفصاله عنه بالخطية وتشويه طبعه الإنساني المنطبعة فيه صورة الله سراً [ الذين فيهم إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين لئلا تُضيء لهم إنارة إنجيل مجد المسيح الذي هو صورة الله ] (2كورنثوس 4: 4)، إنما نتكلم عن العمق الذي يعجز التعبير عنه، عمق الجوهر الإلهي الفائق الإدراك، فالله في عمق جوهر طبيعته غامض بالنسبة للإنسان الساقط الذي لا يُمكن بل ويستحيل أن يُدرك طبيعته، لذلك يحتاج لدواء من نوع خاص ليُشفى من سقوطه ليتم رفع الحجاب الذي يحجز معرفة الله عن ذهنه الذي أصبح في غباوة لا يُدرك الله، بل كل ما يستطيع عمله هو أن يخلق أوثان عن الله ليعبدها وحده ويُريد أن يُشرك الآخرين فيها معه… وهذه هي الوثنية المستترة في العصور الحديثة…

وبكون الله هو وحده الذي يُدرك مقدار عمى الإنسان، لذلك كلم الآباء بالأنبياء ليُهيئ الإنسان لاستقبال الله الحي، أي أن الله وضع تدبير اسمه إعداد قلب الإنسان ليستقبل الله الحي الذي يُعلن عن ذاته، لذلك جعل الإنسان يتربى بالناموس في العهد القديم ليعد قلبه لاستقبال الله في ملء الزمان، ليكلمه الله بشخصه ونفسه: [ الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء قديماً بأنواع وطرق كثيرة. كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء (من جهة التجسد) الذي به أيضاً عمل العالمين. الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل كل الأشياء بكلمة قدرته بعدما صنع بنفسه تطهيراً لخطايانا جلس في يمين العظمة في الأعالي. ] (عبرانيين 1: 1 – 3)، ولكون أن الله لم يره أحدٌ قط، فالله اراد ان يُخبرنا عن نفسه فارسل ابنه الوحيد لكي يعرفنا ذاته [ الله لم يره أحدٌ قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبَّر ] (يوحنا 1: 18)، لذلك كتب الرسول يوحنا قائلاً: [ الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح ] (1يوحنا 1: 3)

وهنا نأتي لنقطة عملية ينبغي أن تكون في حياتنا كلنا، وهو علينا ان نعي ونفهم ونعرف، أنه إذا سعى الإنسان سعياً جاداً ليجد الله، فالله هو الذي يَجده، وإذا سعى الإنسان للحقائق الإلهية للدخول في شركة حقيقية مع الله الحي، فأن الحقيقة الإلهية هي التي تملك عليه وترفعه إلى مستواها، لذلك يقول القديس غريغوريوس النيصي: [ أن نجد الله يعني أن تبحث عنه بلا انقطاع… والحق أن من لا يشبع من الشوق إلى الله فهو الذي يعرف الله ] …

فالإنسان يا إخوتي – بالنسبة لمعرفة الله والحديث عنه – فهو لا يتفلسف إنما يتحوَّل عن طريقة الطبيعي بتوبة صادقة فيُرفع البرقع الحاجز معرفة الله عنه [ حينئذ فتح ذهنهم ليفهموا الكتب ] (لوقا 24: 45)، فتنفتح البصيرة الداخلية ويرى مجد الله الحي ويتغير تغيير دائم نحو صورة الله وبهاء مجده الخاص [ ونحن جميعا ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كورنثوس 3: 18)، وبعد ذلك نستطيع ان نشهد لله ونكون شهود عيان نكتب ببصيرة مفتوحه ونعلم مجد الله الظاهر في الابن الوحيد … كونوا في ملء معرفة الله بروح الحياة في المسيح يسوع آمين

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى