الارشاد الروحى

مُلك الخطية على الإنسان وكيف يتم غلبتها عملياً في حياتنا

أولاً خطورة الخطية ومشكلتها في داخل النفس

خطورة الخطية أنها ذات سلطان، لأنها قوة مُعادية تتسلط على حياة الناس، حتى أنها تفقد الإنسان الحس ورجاحة العقل، لأنها تجعله مثل الذي استقى الخمر الثقيلة فغيبت عقله ليعقل أموره الطبيعية، فيتصرف بحماقة من تغيب عقله، لأن قوتها هي الموت، والموت يملك في الإنسان بالمرض، ويستمر يعمل المرض في الإنسان إلى أن يُحطم جسده كله ولا يبقى فيه قوة ولا قدرة على أي نشاط طبيعي حتى أنه يفقد الإحساس بالجوع والرغبة في الحياة لأنه يكون قد سأم منها، بل والبعض يظن من طول فترة المرض أن هذا هو الطبيعي لحياة الناس، فيستسلم للمرض ويصبح له شيءٌ عادي مثل الماء والهواء، بدون ان يُدرك أن هذه ليس حالته الطبيعية…

فمثلاً إذا تُرك طفل في وسط غابة فأخذته الوحوش وتربى وسطها، فأنه سيظن أن هذه هي حياته وبيئته الطبيعية، فيعيش مثل إنسان الغاب في فوضى وقنص وافتراس وصيد الطرائد حسب ما تعلم من الحيوانات، ويظن أن هذه هي حياته، وهكذا من تورط في الخطية وحياة الشرّ والفساد واعتاد عليها، إذ قد فَقَدَ الحس الطبيعي الذي للإنسان الكريم المخلوق على صوره الله ومثاله، وعاش في الشر الذي ملك عليه ليحفظه تحت سلطان الموت وعمى البصيرة، حتى أنه لا يستطيع ان يتنسم رائحة الحياة وحرية النفس الحقيقية، بل يصير تحت مرارة عبودية لا يستطيع أن يخرج من دائرتها الحاصرة للنفس المقيدة بالشهوات والميول الغير منضبطة حسب طبيعة النفس الحقيقية ظناً منه أن هذه هي حياته، وهو يعتاد عليها مثل من عاش وسط القمامة واعتاد رائحتها ولا يعرف ما هو نسيم الهواء النقي، لأنه لم يستنشقه قبلاً…

فالشرّ هو جذر مُخفي في داخل القلب وفي الأعضاء، والسارق واللص موجود في داخل البيت، الذي هو هيكل الإنسان، ساكن في أعماق قلبه، مسيطراً على كل مراكز النفس الاستراتيجية، ليحرك جسده واعضاؤه كيف ما شاء بأشعالها بالشهوة الردية.

فالقوة المُعادية هي قوة غير منظورة تسكن وتتسلط لتُحرك كل الأعضاء لتكون آلات إثم للخطية، لأن عُنصر الشرّ بطبيعته مثل المياه الذي نضع تحتها النار، فتفور للأعلى وتظهر على سطح الإناء وقد تتدفق منه إلى خارج، هكذا الشرّ المختفي في داخل القلب، لأنه جرثومة القصد السيء التي تشعل الجسد كله بنار حرارة المرض القاتل، ومثل الخميرة التي تُخمر العجين كله، فأنه ينتشر تدريجياً ويزداد ويتكاثر ويتفاقم حتى يجعل الإنسان يرتكب الخطايا ظاهراً وعلانيةً، وأن لم تتوقف مجاري الخطية، يستمر سقوط الإنسان في آلاف من الأشياء الخاطئة جداً حتى أنه يصير مثل الإنسان الذي يدخل في غيبوبة من كثرة السُكر أو غيبوبة المرض المؤدي للموت، بل ويفتخر به بدون أي إحساس بالخزي.

فلنعي يا إخوتي إذن، أن هذا ما تفعله أرواح الشرّ ضد الإنسان، لأن لا يهم عدو الخير أننا نسقط في مجرد خطية، بل يُريد أن نتورط في الشر ونهمل مدينة أنفسنا، لأننا مدينة الله الحي، فالخطية أن زحفت إلى الداخل، فهي تسكن وتتفاقم وتُدمر، إذ هي نوع من أنواع القوة الغير منظورة من الشيطان، وهي قوة حقيقية قد زرعت في الإنسان كل أنواع الشرّ، وهي تعمل سراً في الإنسان الباطن دون أن يُلاحظها أحد، وتعمل في العقل، وتُحارب ضد الأفكار الصالحة التي من الله أو حتى حسب الإنسان الطبيعي السوي…

ولأنها قوة خفية لا يشعر بسكناها الإنسان ولا يعي وجودها، لذلك فأنه لا يدرك أنه يفعل الشرّ بتأثير قوة غريبة تعمل فيه، فهو يظن أن ما يفعله هو باختياره وأن له سلطاناً عليه، كما يقول البعض حينما يدمنون: بأنهم يستطيعوا التوقف في أي وقت، ومع ذلك لا يقدرون على أن يتوقفوا على مستوى الواقع العملي !!! غير مدركين أن ما استعبد له الإنسان لا يستطيع أن ينفك منه إلا بما هو أقوى من سلطانه، لكي يفكه من أسره…
فمثلاً حينما تقوم حرب دروس مع ملك قوي وله جيش ذات عُتاد حربي قوي وحديث للغاية، فأنه يحطم الذين يحاربوه سريعاً ويأخذ الغنائم ويأسر الناس ويجعلهم عبيده وتحت سلطان قبضته، ويضعهم في سجنه ويستودعهم تحت حراسات مشددة قوية، فأنهم لا يستطيعون الهرب قط أو تحرير أنفسهم منه، حتى لو هربوا فيبقوا تحت تهديد ولا يستطيعون أن يفلتوا من مصيرهم، إلا إذا أتى من هو أقوى منه ليحطم مملكته ويحرر أسراه ويفكهم، لأنه أنهى على هذه المملكة العظيمة والتي استعبدت الكل وأسرت الجميع…

فيا إخوتي أن العالم كله (ولا فرق بين فقير وغني وصغير وكبير فيه) مُستعبد للخطية وهو لا يدري، وهُناك نار نجسة تُشعل القلب وتنتشر في كل الأعضاء. وكل من لا يسعى لكي ينال قوة الخلاص من سلطان الخطية التي تعمل بالموت خفيةً، سيجد الشرّ مكاناً له في داخله، إلى أن يسقط في النجاسة المكشوفة، فالشهوات ورغبات الجسد الغير منضبطة بالتقوى مثل الجبال الثقيلة لا تُحتمل، وتوجد في وسطها أنهار من الحمم البركانية والوحوش العظيمة والثعابين السامة القاتلة، وكما يبلع الحوت الإنسان في بطنه، هكذا تُبتلع الخطية النفوس، إذ أنها لهيب نار حارقة وسهام الشرير الملتهبة، والرسول يقول [ تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة ] (أفسس 6: 16)، لأن الخطية وجدت لها مكاناً في النفس، ووضعت أساسها في داخل النفس وأحاطتها كسور عالي، فملكت وتسلطت ولا يستطيع أحد ان ينفك من سلطانها قط بل يحتاج لمن هو أقوى ليحرره.

ثانياً: كيف نتخلص من حياة الشر والفساد التي ملكت علينا

الإنسان الذي جلس زماناً في الخطية وملكت عليه، فأنها تهدمه وتحطمه كُلياً وتجعله خرباً: [ بلادكم خربة مدنكم محرقة بالنار أرضكم تأكلها غرباء قدامكم وهي خربة كانقلاب الغرباء ] (أشعياء 1: 7)، [ زمجرت عليه الأشبال أطلقت صوتها وجعلت أرضه خربة أحرقت مدنه فلا ساكن ] (إرميا 2: 15)، وحينما تأتي لحظة صدق على هذا الإنسان الذي تسلط عليه الموت فأنه ينظر إلى نفسه قائلاً: [ نظرت إلى الأرض وإذا هي خربة وخالية وإلى السماوات فلا نور لها ] (إرميا 4: 23)…

فنحن جميعنا نحتاج لوقفة جادة أولاً لننظر لحياتنا بصدق قلب يُريد أن ينجو، ونعرف أين نحن على وجه التحديد، وكيف نعيش ونحيا، وهذا ليس صعب علينا لأنه ظاهر في سلوكنا وحياتنا اليومية المُعاشة، وواضح لأن رغبات قلبنا هي التي تكشفنا وتفضح عورتنا، وكل واحد يعرف يقيناً ما هي ضربة قلبه…

واعلموا يا إخوتي أن شفاء الإنسان يبدأ أولاً بمعرفة مرضه، ومكامن ضعفه، لأني أن لم أعلم أني مريضاً فلن اذهب قط للطبيب، وحتى أن وجدني الطبيب الشافي فإني لن أتناول منه علاج، لأني أشعر بصحة جيدة، وغير مقتنعاً بأني مريضاً من الأساس، لذلك فخطوتنا الأولى هو الاعتراف بالمرض، لا مجرد وهماً أو ظن، بل رؤية واضحة وقناعه في قلوبنا لأننا عرفنا مكامن الخطية في النفس، ورأينا أننا خطاة فعلاً والخطية ملكت علينا بالموت، وظاهره في أوجاعنا الداخلية وعدم إحساسنا بالسلام ولا الراحة والشعور بخراب النفس الشديد: [ ثم قلت لهم أنتم ترون الشرّ الذي نحن فيه، كيف أن أورشليم خربة وأبوابها قد أُحرقت بالنار، هلم فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً ] (نحميا 2: 17)…

وهذه الآية تنقلنا من مرحلة لمرحلة أخرى، لأننا أولاً ينبغي أن نعرف عارنا لكي نعرف كيف نطلب المجد الحقيقي الذي لنا، لأن من يعرف عاره يعرف كيف يطلب ويسعى جاداً جاهداً لمجده، لذلك يقول النبي [ أنتم ترون الشرّ الذي نحن فيه ]، إذن لابد من أن نبدأ بالرؤيا، نرى العار الذي نحن فيه، ولكن لا يكفي أبداً أن نرى العار ونسكت، بل [ هلم فنبني سور أورشليم ولا نكون بعد عاراً ]، وهذه هي الخطوة الثانية التي تتبع الأولى، لأن لو سكتنا على اننا أصبحنا عاراً فلن نستفيد شيئاً سوى اننا سنيأس ونتورط في الموت أكثر بل ونهلك للأبد، ونبدأ في سلسلة: (( أنا لا أستحق، لا يوجد فائدة فيَّ، أنا مش نافع ولن أفلح قط.. الخ ))…

فنحن يا إخوتي أورشليم الجديدة مدينة الملك العظيم، واعلموا إننا صرنا كمدينة خربة أكلتها النار، ويستحيل البناء فيها إلا إذا تم هدم كل ما خَرُب في المدينة وإزالة الرجم والردش والمخلفات المحترقة وطرد الوحوش التي سكنتها، ليتم الحفر ووضع الأساسات الجديدة، وهكذا ترتفع الأبنية الجديدة ويتم دهنها وتزيينها بكل زينة، لذلك ومن الضروري أن نعي أن الرب يسوع أتانا في ملء الزمان لكي يبني مدينة الملك العظيم التي هي نفوسنا، لأن الهيكل القديم انتهى وصرنا نحن هياكل مقدسة غير مصنوعة بيد إنسان، بل بيد القدوس القدير، الذي أتانا لكي يُعيد خلقتنا من جديد ويزيل كل موت فينا ويمحوه، لذلك دعوته المقدسة لنا اليوم وكل يوم : [ تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أُريحكم ] (متى 11: 28)، وذلك لكي [ يقولون هذه الأرض الخربة صارت كجنة عدن والمُدن الخربة والمقفرة والمنهدمة محصنة معمورة ] (حزقيال 36: 35)…

ونحن حينما نذهب للرب لا نذهب بأرجلنا بل باشتياق قلوبنا صارخين [ يا سيد أن أردت تقدر أن تُطهرني ] (متى 8: 2)، فالرب يُريد أن يعرف ماذا نُريد منه، ولا يُريد مجرد كلام بل احتياج قلب يشعر بضيق، يُريد إنسان يسمع صوت قلبه لا شفتيه، لذلك الرب يقترب من النفس الشقية ويجُيبها: [ فأجاب يسوع وقال له ماذا تُريد أن أفعل بك ؟ فقال له الأعمى يا سيدي أن أُبصر ] (مرقس 10: 51)…

أحياناً نتعجب لماذا الله لا يستجيب لنا !!! غير مفتشين في قلبنا وإرادتنا لأننا لا نعرف رغباتنا وماذا نُريد منه عن حاجة وليس بكلام وكأننا نكتب قصيدة، أو نلغو بكلام محفوظ لا يُعبِّر عن حالتنا واحتياجنا الحقيقي !!! [ الرب من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله ] (مزمور 14: 2)

فاليوم علينا بعد أن نعرف حالاتنا ونتحقق منها جيداً جداً في وقفة صدق مع أنفسنا بدون لف أو دوران أو حجج فارغة، بل بإرادة واعية واعتراف حسن، نقف أمام الله الحي صارخين [ يا سيد غلامي مطروح في البيت مفلوجاً متعذباً جداً ] (متى 8: 6)، والرب سيقول [ أتؤمن ]، [ فللوقت صرخ أبو الولد بدموع وقال أؤمن يا سيد فأعن عدم إيماني ] (مرقس 9: 24)…

واعلموا يا إخوتي، أن الرب هو الطبيب الشافي الذي يُشفي النفس فعلاً ويُطهرها، ولكن لا يعتقد أحد أن هذا الأمر يحدث في لحظة واحدة أو طرفة عين، بل ما يحدث سريعاً هو أن تتغير النفس عن اتجاهها الأول وتصير في وعي جديد، لأنها ستأخذ برّ الرب يسوع وترتديه، وسيزرع فيها الرب بذرة الخلود لتنمو وتثمر في النهاية ثمر الروح النفيس، لذلك يحتاج الأمر تعباً كثيراً وجهداً لكي يطلب الإنسان أساسات البناء الجديد ويضعها في داخله، طالباً النار الإلهية المقدسة أن تسكن هيكل جسده لكي تحرق الأشواك التي نبتت في داخله كنتاج السقوط واللعنة [ شوكاً وحسكاً تنبت لك الأرض ] (تكوين 3: 18)، فيتنقى قلبه، وهكذا يبدأ أن يتقدس يوماً بعد يوم، فيُمجد الآب والابن والروح القدس تمجيد لائق وحقيقي، ويبدأ يشتعل قلبه بالمحبة الإلهية والغيرة المقدسة على هيكل جسده ليكون ينبوع مختوم وعين مقفله للسيد الرب الذي ختم على قلبه ختم العهد الجديد، لأنه صار خليقة جديده فيه، ويستمر يسير في جهاد قانوني ليعيش في منهج اسمه منهج القداسة في برّ يسوع الذي صار كساءه الخاص، ويستمر يستقي من كلمة الحياة ويقتات بها ليحيا من قداسة لقداسة ومن عمق لعمق ويحيا وفق ما هو مكتوب: [ ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة، نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الرب الروح ] (2كورنثوس 3: 18)…

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى