كلمة الله : الحياة للجميع
03-13-2008, 10:21 AM
السؤال الذي يتبادر إلى ذهننا لدى سماع هذه العبارات الصياميّة هو: لماذا نصوم؟
هناك إجابات عديدة شائعة. يبدو الصوم للبعض، تعذيباً للجسد وإخْماداً لثوراته. وكأنَّ الجسد هو سجنٌ للنفس الخاطئة، أو تعذيب وعقاب لها؛ وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك. الجسد ليس مُقدَّساً وحسب، بل هو مَقْدِسٌ للربّ بالذات، كما عرّفه بولس الرسول. الجسد مُقدَّس، وبالصوم يتقدّس أكثر.
لآخرين، الصوم هو مجرّد ممّارساتٍ استغفارية أو استدرار لرحمة الله أمام خطايانا البشريّة. إنَّ العهد القديم ملآن فعلاً بأمثلة على ذلك. نعم إنَّ الصوم كذلك، ولكن ذلك ليس الصوم كلَّه. فما هو الصوم إذن؟
للإجابة، نعود إلى الكنيسة في قرونها الأولى. الكنيسة الأولى التي انطلقت من قيامة المسيح، لم يكن عندها 'صوم كبير' أو أصوام عديدة وطويلة. لم يكن عندها صوم بقدر ما كان عندها 'عيد'، الحدث كان قيامة المسيح وكان الفصح في الكنيسة هو العيد.
لكن عبر الزمن، بدأ المسيحيّون يستعدّون للتعييد، بثلاث أيّام 'صوم' قبل الفصح، ثمَّ أطالوا الصيام فصار كلّ أسبوع الآلام. وهكذا، بينما كانت تحاول الكنيسة أن تحيا العيد، تمخّضت بالأصوام وهذا ما قادت إليه الخبرات الروحيّة: إنَّ العيد يستحقّ فعلاً أربعين لا بل خمسين يوماً من الصوم.
الصوم في ضمير الكنيسة، ليس تعذيباً للجسد، ولا واجباً، أو استغفاراً، بل هو استحضار للعيد. الصوم سلَّمٌ، كلّ يوم من أيامه هو بمثابة درجة نصعد بها إلى يوم العيد. الصوم ليس فترة 'حرمانات'، كما يسمّيه العامّة، تسبق العيد ونستبدلها بالملذّات بعده. الصوم بكلمة هو 'هِبات' أي هو إشراقات العيد. العيد صغير ويبدأ بالنموّ من أول يوم من أيّام الصوم. يستحضر الصوم العيد البعيد ويجعله قريباً. الصوم بكلمة مختصرة هو تجلِّي العيد، الصوم الكبير هو فترة تبدأ تصيّرنا فصحيّين حتّى إذا ما جاء الفصح نُعَيِّد العيد.
قد يبدو الصوم لمن يجهله حرماناً وتعذيباً، لكن لمن يحياه هكذا، فإنَّه يغدو فرحاً وتعييداً. هذا هو حزن الصوم البهي، وبهاؤه يكمن في مجيء العيد وحضوره المتدرّج إلى حياة الصائم، أي في تجلّي العيد له يوماً بعد يوم.
الصوم كتجلٍّ للعيد يصير بالحقيقة تجلٍّ للإنسان الفصحيّ الذي يقدر على التعييد. نحن، كلنا، من يوم المعموديّة صرنا فصحيّين، لكن المسلكيّات اليوميّة تزّيفنا وترمي علينا وشاح إنسان عتيق بعد أن كنَّا قد لبسنا المسيح. وكلنا نتأرجح بين ذلك العتيق وبين المسيح. والصوم يجلّي فينا الإنسان الجديد. أي أنّه يغسلنا ويطهّرنا بالتوبة. لذلك فإنَّ حركة الصوم كتجلٍّ للإنسان ليست إلاَّ حركة التوبة أي خلع ذلك الوشاح القديم ولبس الإنسان الجديد.
في الصوم، إذن، نبني فينا الإنسان الجديد الذي لا يحيا بالخبز بل بكلمة الله، الإنسان الذي لا يمتنع عن اللحم، كما يقول الذهبي الفم، بينما يستبيح لحوم الآخرين. إنّه الإنسان الجديد الذي لا يجعل الآخر طعاماً لأنانيته بل يجعل نفسه طعاماً لمحبّة الآخرين. الإنسان الذي لا يحيا على استهلاك الآخرين وإنّما على خدمتهم.
في الصوم يعاين الإنسان حركته الأنانيّة الخدّاعة فيتألم من جرائها، ويحيا في المحبّة أكثر، فيفرح بها. هذه هي التوبة، والصوم أداتها. الصوم يهذّب للإنسانِ مذاقَه، فيؤكّد هذا الإنسان لذاته، حين ينقطع عن اللحم، أنّه لا يحيا به وأنَّه لا يقوم على هذا الأمر القيّم! وحين يتعالى عن لذائذ الطعام يوضح لنفسه ويؤكّد لها أنّه يستطيب المنَّ السماويّ أكثر، وأنَّه يسعى إلى طعام المدينة الباقية. الصوم يصحّح تهذيبنا. بالصوم نكتشف أنَّ 'النِعَم' ليست هي المصالح الأرضيّة، بل هي النعمة السماويّة.
نَعم، الصوم فترة ننصرف فيها إلى الكلمة الإلهيّة، فنسهو عن أكل خبزنا، ونشرب كأسنا ممزوجة بالدموع كي ننهلَها كالنور...
هناك إجابات عديدة شائعة. يبدو الصوم للبعض، تعذيباً للجسد وإخْماداً لثوراته. وكأنَّ الجسد هو سجنٌ للنفس الخاطئة، أو تعذيب وعقاب لها؛ وفي الحقيقة ليس الأمر كذلك. الجسد ليس مُقدَّساً وحسب، بل هو مَقْدِسٌ للربّ بالذات، كما عرّفه بولس الرسول. الجسد مُقدَّس، وبالصوم يتقدّس أكثر.
لآخرين، الصوم هو مجرّد ممّارساتٍ استغفارية أو استدرار لرحمة الله أمام خطايانا البشريّة. إنَّ العهد القديم ملآن فعلاً بأمثلة على ذلك. نعم إنَّ الصوم كذلك، ولكن ذلك ليس الصوم كلَّه. فما هو الصوم إذن؟
للإجابة، نعود إلى الكنيسة في قرونها الأولى. الكنيسة الأولى التي انطلقت من قيامة المسيح، لم يكن عندها 'صوم كبير' أو أصوام عديدة وطويلة. لم يكن عندها صوم بقدر ما كان عندها 'عيد'، الحدث كان قيامة المسيح وكان الفصح في الكنيسة هو العيد.
لكن عبر الزمن، بدأ المسيحيّون يستعدّون للتعييد، بثلاث أيّام 'صوم' قبل الفصح، ثمَّ أطالوا الصيام فصار كلّ أسبوع الآلام. وهكذا، بينما كانت تحاول الكنيسة أن تحيا العيد، تمخّضت بالأصوام وهذا ما قادت إليه الخبرات الروحيّة: إنَّ العيد يستحقّ فعلاً أربعين لا بل خمسين يوماً من الصوم.
الصوم في ضمير الكنيسة، ليس تعذيباً للجسد، ولا واجباً، أو استغفاراً، بل هو استحضار للعيد. الصوم سلَّمٌ، كلّ يوم من أيامه هو بمثابة درجة نصعد بها إلى يوم العيد. الصوم ليس فترة 'حرمانات'، كما يسمّيه العامّة، تسبق العيد ونستبدلها بالملذّات بعده. الصوم بكلمة هو 'هِبات' أي هو إشراقات العيد. العيد صغير ويبدأ بالنموّ من أول يوم من أيّام الصوم. يستحضر الصوم العيد البعيد ويجعله قريباً. الصوم بكلمة مختصرة هو تجلِّي العيد، الصوم الكبير هو فترة تبدأ تصيّرنا فصحيّين حتّى إذا ما جاء الفصح نُعَيِّد العيد.
قد يبدو الصوم لمن يجهله حرماناً وتعذيباً، لكن لمن يحياه هكذا، فإنَّه يغدو فرحاً وتعييداً. هذا هو حزن الصوم البهي، وبهاؤه يكمن في مجيء العيد وحضوره المتدرّج إلى حياة الصائم، أي في تجلّي العيد له يوماً بعد يوم.
الصوم كتجلٍّ للعيد يصير بالحقيقة تجلٍّ للإنسان الفصحيّ الذي يقدر على التعييد. نحن، كلنا، من يوم المعموديّة صرنا فصحيّين، لكن المسلكيّات اليوميّة تزّيفنا وترمي علينا وشاح إنسان عتيق بعد أن كنَّا قد لبسنا المسيح. وكلنا نتأرجح بين ذلك العتيق وبين المسيح. والصوم يجلّي فينا الإنسان الجديد. أي أنّه يغسلنا ويطهّرنا بالتوبة. لذلك فإنَّ حركة الصوم كتجلٍّ للإنسان ليست إلاَّ حركة التوبة أي خلع ذلك الوشاح القديم ولبس الإنسان الجديد.
في الصوم، إذن، نبني فينا الإنسان الجديد الذي لا يحيا بالخبز بل بكلمة الله، الإنسان الذي لا يمتنع عن اللحم، كما يقول الذهبي الفم، بينما يستبيح لحوم الآخرين. إنّه الإنسان الجديد الذي لا يجعل الآخر طعاماً لأنانيته بل يجعل نفسه طعاماً لمحبّة الآخرين. الإنسان الذي لا يحيا على استهلاك الآخرين وإنّما على خدمتهم.
في الصوم يعاين الإنسان حركته الأنانيّة الخدّاعة فيتألم من جرائها، ويحيا في المحبّة أكثر، فيفرح بها. هذه هي التوبة، والصوم أداتها. الصوم يهذّب للإنسانِ مذاقَه، فيؤكّد هذا الإنسان لذاته، حين ينقطع عن اللحم، أنّه لا يحيا به وأنَّه لا يقوم على هذا الأمر القيّم! وحين يتعالى عن لذائذ الطعام يوضح لنفسه ويؤكّد لها أنّه يستطيب المنَّ السماويّ أكثر، وأنَّه يسعى إلى طعام المدينة الباقية. الصوم يصحّح تهذيبنا. بالصوم نكتشف أنَّ 'النِعَم' ليست هي المصالح الأرضيّة، بل هي النعمة السماويّة.
نَعم، الصوم فترة ننصرف فيها إلى الكلمة الإلهيّة، فنسهو عن أكل خبزنا، ونشرب كأسنا ممزوجة بالدموع كي ننهلَها كالنور...