إذا كان الله – موضوع الإيمان – طبعه نار آكله ، وقدوس مطلق ، ولا يراه أحد ويعيش ، فهو يختلف عن طبعنا الضعيف ويفوق كل فكر وتصور ومعرفة وشعور ورغبة ، فهذا يعني أنهُ لا يُمكنني أن أكتشفه من تلقاء ذاتي ، لأن الله ليس مثله شيء لكي أعرفه أو اقارنه بشيء يقرب لي الصورة أو المفهوم : [ الله لم يره أحدٌ قط ... ] (يو1: 18)
[ فقال (موسى) ارني مجدك. فقال أُجيز كل جودتي قدامك وأُنادي باسم الرب قدامك، وأتراءف على مَنْ أتراءف ، وارحم من أرحم . وقال لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش ] (خروج33: 18 – 20)
ويقول القديس باسيليوس الكبير : [ اجعلوا غير المنطوق به (الثالوث القدوس) معبوداً في صمت ] (عن الروح القدس 18: 44)
فمن المستحيل على الإنسان – مهما كان وضعه – أن يكتشف الله من تلقاء ذاته أو بذكائه الخاص أو بمعرفته العقلية المحدودة ، بل كل ادّعاء من أي إنسان أنه قادر على أنه يعرف الله من ذاته أو يشرحه حسب فكره وفلسفته ويُخبِّر عن الله ، فهو – بكل يقين – كاذب ، لأن المسيح الحق المطلق قال : [ الآب نفسه الذي أرسلني يشهد لي [ قد شهد لي ] لم تسمعوا صوته قط ولا أبصرتم هيئته ] ( يو5: 37)
إذن فالإنسان عاجز تماماً عن معرفة الله ورؤيته في طبيعته الفائقة ، والوحيد – فقط – الذي يُعلن ويُخبِّر عن الله في حقيقة جوهره هو شخص المسيح الكلمة المتجسد ، فهو الذي يُعلن ذاته بالإيمان لكل من يُريد ، فهو يقول بفمه الطاهر :
[ وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم ] (يوحنا 8: 26)
[ وأنا إنسان (الله الظاهر في الجسد) قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله (الآب) ] (يوحنا 8: 40)
[ أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي ] (يوحنا 10: 32)
[ لو كنتم عرفتموني لعرفتم أبي أيضاً ، ومن الآن تعرفونه وقد رأيتموه ] (يو14: 7)
[ لأني أعلمتكم ما سمعته من أبي ] (يو 15: 15)
[ لا أكلمكم أيضاً بأمثال بل أخبركم عن الآب علانية ] (يوحنا 16: 25)
ولنُلاحظ الأفعال : أقوله – كلمكم بالحق – أعلمتكم – أخبرتكم
فالابن الوحيد الكائن في حضن الآب فيه اُستُعلِن الله مرئياً ومسموعاً :
[ الذي رآني فقد رأى الآب ] (يوحنا 14: 9)
[ الكلام الذي تسمعونه ليس لي بل للآب الذي أرسلني ] (يوحنا 14: 24)
فموسى وكل الشخصيات العظيمة والمُقربة لله على مدى العهد القديم كله ، لم يَحظَ أحد منهما – قط – برؤية الله رؤية حقيقية ، إنما كان كله بالشبه أو المثال ، وبالتالي تكون كل توصيات ووصايا العهد القديم هي حتماً : شبه السماويات وظلها ...
وحتى الإنسان نفسه – كل إنسان – فهو مخلوق أصلاً على شبه الله وصورته .
ولكن الآن وفي المسيح – له المجد – ليس الأمر كذلك ، لأنه هو الصورة الحقيقية لله ، بل هو الحق في ذاته وفي أقواله ، وهو في ذاته ملء النعمة والحق : [ (ابن) وحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً . الابن الوحيد (الإله) الذي هو في حضن الآب هو خَبَّر ] (يوحنا 1: 14 و18)
والله يُحبنا بشدة بما يفوق الشرح والوصف : [ هكذا أحب الله العالم ... ] (يوحنا 3: 16)، ولذلك أراد أن يكشف ذاته لنا = لي ولك شخصياً ، وذلك لأن المحبة تدفع المُحب أن يكشف ذاته للمحبوب ، حسب قول الرب : [ أنا أحبه وأُظهر له ذاتي ] (يوحنا 14: 21)
فلو لم يأخذ الله مبادرة كشف ذاته للإنسان ، لِما كان الإيمان ممكنناً ، لأن الإيمان عبارة عن : جواب الإنسان على دعوة شخصية ، يكشف له فيها كل من الآب والابن والروح القدس عن ذاته : شخصاً حياً وحضوراً مُحيياً .
وفي هذه الحالة فقط يأتي جواب الإنسان على الدعوة :
فأمام هذا الإعلان الحي والحضور المُحيي ، الذي فيه تأتي دعوة الله المحب ، للاتحاد والالتصاق ، يتجاوب الإنسان بإلقاء ذاته في حضن الآب في المسيح بالروح القدس ، ليغرق ويرتوي حباً من بحر حضور الله كما كشف هو ذاته في المحبوب يسوع ...
فالله في كشف ذاته يُخاطب الإنسان مُظهراً لهُ ذاته ، وداعياً إياه لحياة الشركة بالحب معه ، في شخص الكلمة الابن الوحيد الذي اتحد بنا اتحاد غير قابل للافتراق بتجسده ...
ودعوة الله للإنسان للإيمان به ليحيا معه في سر الحب تأتي بالوسائل الآتية :
- من خلال آثاره في الخليقة وفي قلبه الذي في داخله سرّ صورة الله
- بالوحي الإلهي وتاريخ الخلاص الذي بلغ ذروته بتجسد ابن الله
وتلك هي الطرق – وان أتعددت مظاهرها – ليأتي إليَّ ويقرع باب قلبي ، حتى إذا سمعت صوته وفتحت قلبي [ والقلب معناه في لغة الكتاب المقدس هو مركز شخصية الإنسان ، يلتقي فيه العقل والشعور والإرادة ] فإذا فتحت له قلبي هذا :
اختبرته وتذوقته بأعماق كياني كحضور شخصي يملأ كياني : [ والكلمة صار جسداً وحل بيننا (فينا في الأصل اليوناني) ] (يوحنا 1: 14) ، وهو حضور يفوق كل تصوراتي ورغباتي وإمكانياتي ، ولكنه يُنير عقلي ويستقطب شعوري ويشدني بقوة ويجذبني ويدخلني في دائرة محبته ، وهذا الحضور الفائق لا أمتلكه ، ولكنني به ومنه وله أحيا . وهذا هو فعل الإيمان الحقيقي وقوته ...
فالإيمان المسيحي الحقيقي ، ليس تحليلاُ فكرياً ، أو معرفة عقلانية أو فلسفية ، ولا هو تحضير درس أو قراءات للمعرفة والفحص والدراسة للمعرفة والحفظ ، أو معرفة للمصطلحات اللاهوتية [ رغم أهميتها للذي يؤمن فعلاً ] ، إنما الإيمان المسيحي الأرثوذكسي (المستقيم) الحي ، هو دخولنا في دائرة محبة الثالوث القدوس واستعلانه والامتلاء من حياته على قدر قامة كل واحد فينا ، وبعد ذلك يُمكننا أن نحفظ ونخدم ونبحث كيفما شئنا ...
وعنواننا القادم ( علامة الإيمان )