الحقيقة أن الإنسان موضوع سرور الله وسر شبع ربنا يسوع وقد أظهره بمعنى بديع في الكتاب المقدس عند لقاؤه بالسامرية : فقال لها يسوع أعطيني لأشرب ، لأن تلاميذه مضوا إلى المدينة ليبتاعوا طعاماً ، فبعد لقاء السامرية أتى التلاميذ بالطعام [ ... سأله تلاميذه يا مُعلم كُل . فقال لهم أنا لي طعام لآكل لستم تعرفونه أنتم ، فقال التلاميذ بعضهم لبعض : ألعل أحد أتاهُ بشيء ليأكل . قال لهم يسوع : طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأُتمم عمله ] ( أنظر يوحنا 4: 31 – 34 )
فلننتبه لأننا أمام سر متبادل عظيم للغاية إن أدركناه بالقلب سنلقي أنفسنا على شخص المسيح الحلو ولن نصدق عدو الخير أو نتمسك بالخطية ن بل سنتوب بسهولة ونشبع بلقاء الرب المبدع والمريح للنفس فعلاً وعلى مستوى خبرة اللقاء الحي بشخصه الرائع ، فهنا نحن أمام سر عظيم متبادل بين طرفين ، أي بين الله والإنسان ، فالإنسان هو شبع الله وفرح قلبه وموضوع مسرته ، والله أيضاً شبع الإنسان الحقيقي وفرح قلبه وسعادته الداخلية ، ويُعبَّر عن ذلك القديس أغسطينوس قائلاً [ خلقتنا لأجلك (لذاتك) ، وقلوبنا لن تجد راحتها إلا فيك ... سأطلبك ربي داعياً إياك ، وسأدعوك مؤمناً بك ، لأنك لنا كرزت . سيدعوك ربي إيماني ؛ إيماني الذي وهبتني إياه ، ألهمتني إياه في تجسد ابنك ] (اعترافات القديس أغسطينوس ترجمة برتي شاكر – الطبعة الثالثة ص 7)
من هنا نقدر أن نميز ونعي تمام الوعي ، لماذا يُفتش الله عن الإنسان باستمرار وإصرار مهما كانت خطاياه فادحة وعيوبه خطيرة ، وهذا ما نلاحظه في جلوسه مع الخطاة والأثمه كما حدث مع المرأة الخاطئة والسامرية وغيرها ، ونتحسس موضوعنا وسطهم ...
وندرك أيضاً لماذا يُفتش الإنسان عن الله بحنين وشوق داخلي يظهر في كل الديانات !!!
فمنذ السقوط ونسمع قول الله [ آدم أين أنت ] !!! (أنظر تكوين 3: 9)
وأيضاً نجد صوت الإنسان يصرخ في عبادة الله بطرق مختلفة ، عله يجد الطريق ، وهو يُعبر بطريقة ضعيفة بأنين داخلي [ أين أنت يا الله ] :
[ أين الطريق إلى حيث يسكن النور ] (اي 38 : 19)
[ صارت لي دموعي خبزا نهارا و ليلا إذ قيل لي كل يوم أين إلهك ] (مز 42 : 3)
[ ثم ذكر الأيام القديمة موسى و شعبه أين الذي أصعدهم من البحر مع راعي غنمه أين الذي جعل في وسطهم روح قدسه ] (اش 63 : 11)
[ تطلع من السماوات و انظر من مسكن قدسك و مجدك أين غيرتك و جبروتك زفير أحشائك و مراحمك نحوي امتنعت ] (اش 63 : 15)
وفي قمة صراخ الإنسان وعوزه نجد ما يذهلنا جداً ، ففي وسط التفتيش المتبادل بين الله والإنسان ، وفي صميم فشل الإنسان الأكيد للوصول إلى الله ومعرفته الحقيقية في حياة الشركة وعلى مستوى المعاينة بالرؤية ، ربط الله بملء محبته المتدفقة نحو محبوبة الإنسان ، مصيره بمصيرنا ، ليحدث اللقاء فنجد الله أو بمعنى أدق الله يجدنا ويلتقي بنا مثل ما فعل مع السامرية : [ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون لهُ الحياة الأبدية ] (يو3: 16)
نستطيع الآن أن نفهم ما هو سر المرض الإنساني على ضوء ما شرحناه سابقاً : فالإنسان المريض روحياً والمتعب في داخله – وهذا التعب ينعكس على كل أعماله التي تظهر قلق قلبه المستتر – هو إنسان تاهت منه نفسه وقد انغلقت على نفسها – انعزلت – وأخفت سرها ، فتاه معها حل مشكلته الحقيقية المخفية فيه !!!
ويقول القديس مقاريوس الكبير [ أن العالم الذي تراه من حولك ، ابتداءً من الملك حتى الشحات جميعهم في حيره واضطراب وفتنة ، وليس أحد منهم يعرف السبب في ذلك ، مع أن السبب هو ظهور الشرّ الذي دخل الإنسان ... وأعني به شوكة الموت ] (عظة15: 49)
لقد تشتتنا في هذا العالم المضطرب وعيشنا الجسدي ، وحملنا كل هم وغم في أنفسنا ، وانطمست المعالم الإلهية فينا ، والموت أصبح يسري في داخلنا بسبب سلطان الأهواء الذي يعمل في أعماق قلبونا من الداخل ، حتى صارت ثمارنا فاسدة [ كذب ونفاق وذات وكبرياء ... وغيرها من الأمور الناتجة من سلطان الخطية والموت ] ، إننا نجد الإنسان بتاريخه الطويل والمتعب ، قد انغمس في هموم الدنيا والخطية والشهوة وتعظم المعيشة ، وتعظيم الذات التي أصابته بالعمى ولهته عن التفتيش الدائم عن الله القدوس مُحيي النفس ، فقد نسى الإنسان نفسه ولم يعرف حقيقتها ولم يعرف مصيره : [ أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب . وأما أنتم فلا تعلمون من أين آتي ولا إلى أين أذهب ] (يو8: 14)
لقد ضاعت كرامة الإنسان وإنسانيته التي لن يقدر على تحقيقها إلا في الله ، وضاعت في التشتت والتفتت والانقسام ، وصار صراخه عبر التاريخ الإنساني كله : ما هو الحل ؟!!!
وسوف نتحدث في الجزء القادم عن الحل وهو
[ العودة للنفس ومعرفة الله ]
_____يتبع_____